الاثنين، 10 سبتمبر 2012

الفصل الأول: التشيع السياسي

نشر في :

الفصل الأول: التشيع السياسي

   لا يوجد خلاف بين المؤرخين على ظهور مصطلح "التشيع" للإمام علي في حياته، سواء في يوم السقيفة حيث اعتصم فريق من المهاجرين والأنصار في بيته ورفضوا البيعة لأبي بكر حتى يبايع، أو بعد مقتل عثمان، أو في أثناء حرب الجمل، أو بعد عودته من معركة صفين. ولكن الخلاف هو حول طبيعة التشيع في الزمن الأول هل كان سياسيا؟ أم روحيا دينيا؟ وأيهما الأقدم؟ فبينما يقول الشيعة الإمامية إن التشيع الأول كان "دينيا" بسبب وصية الرسول الأعظم (ص) للإمام علي بن أبي طالب بالإمامة من بعده، يقول المؤرخون الآخرون إنه كان في البداية تشيعا "سياسيا" ثم تطور بعد ذلك إلى تشيع "ديني" (أو عقدي أو روحي)، بعشرات السنين.
  وإذا لاحظنا المؤشرات التاريخية والنصوص الواردة الينا من تلك الحقبة، فسوف نجد أنها تؤكد على كون التشيع الأول ذا طبيعة سياسية وليس عقيدة دينية، وأن الإمام علي وأهل البيت وعموم الشيعة لم يكونوا يعرفون النصوص التي جاء بها "الإماميون" حول نظرية الإمامة، أو لم يكونوا يفهمونها بتلك الصورة، بل كان فهمهم لها معاكسا ومخالفا. وأن الشيعة الأوائل استمروا في فهمهم للتشيع كولاء سياسي مجرد لأهل البيت حتى بداية القرن الثاني الهجري على الأقل، تاريخ نشأة الفكر الإمامي، حيث دخل الشيعة (العلوية) في صراع طويل مع "الإمامية" الذين فشلوا في تقديم أدلة كافية على صحة نظريتهم. وحسبما يقول الدكتور عبد الله فياض:"فقد ظهرت بوادر التشيع السياسي أو الولاء لعلي دون الالتزام بقضية الاعتراف بإمامته الدينية، في سقيفة بني ساعدة، حين أسند حق علي بالخلافة عدد من المسلمين أمثال الزبير والعباس وغيرهما. وبلغ التشيع السياسي أقصى مداه حين بويع علي بالخلافة بعد مقتل عثمان".[1] ويؤكد: أن "شيعة علي" قبل مقتل الحسين لم يكونوا الفرقة الدينية التي عرفت فيما بعد بالشيعة. ويستشهد برأي المستشرق فلهاوزن الذي ذهب إلى عدم تشكيل الشيعة في العراق في الأصل فرقة دينية، وأن اسم الشيعة كان "تعبيرا عن الرأي السياسي في هذا الإقليم كله، فكان جميع سكان العراق، خصوصا أهل الكوفة، شيعة علي، على تفاوت فيما بينهم".[2]

موقف الرسول من الأنظمة السياسية المسلمة في عصره
  
  ويعود الجدل حول طبيعة التشيع الأولى السياسية أو الدينية، إلى جدل أساسي هو ضرورة كون النظام السياسي في الإسلام جزءاً من الدين؟ أم لا؟ وأن الحكام ينبغي أن يشكلوا امتداداً للنبوة؟ أم لا؟.. ويعود كذلك الى طبيعة التجربة النبوية نفسها وفيما إذا كانت دينا محضا؟ أم دينا ومُلكا؟
 وبالنسبة للإجابة عن السؤال الأخير فلا شك أن الرسول الأعظم محمد (ص) مارس السياسة بشكل معين، ولكنه لم يؤسس دولة بالمعنى الحديث للكلمة، ولم يصبح ملكا، ولم يطرح نفسه بديلا عن الممالك العربية وغير العربية القائمة في ذلك الزمان.  وبالرغم من أنه كان يمتلك شرعية سماوية إلا أنه لم يفرض سلطانه على المسلمين في المدينة إلا بعد أخذ البيعة منهم في العقبة.[3] ولم يتدخل في تفاصيل الأنظمة السياسية للقبائل العربية التي كانت تدخل في الإسلام، بقدر ما كان يهتم بأمر التوحيد والصلاة والزكاة. وكان يخاطب الملوك المعاصرين له ويدعوهم الى الإيمان برسالته ويعِدهم بالمحافظة على ملكهم تحت أيديهم. وقد ترك الأمراء والملوك والأقيال والسلاطين الذين أسلموا في حياته على ما هم عليه، ولم يطلب منهم التخلي عن أنظمتهم السياسية لصالح نظام جديد يفرضه عليهم.[4] وقد خلت رسائل الرسول إلى كسرى وقيصر وعظيم القبط من أية دعوة للتنازل عن الملك إليه، وإنما تضمنت فقط دعوتهم الى الدخول في الدين الجديد.[5]  وهذا ما يدل على أن الرسول محمد (ص) لم يكن بصدد تغيير الأنظمة السياسية القائمة، وبناء دولة جديدة، بقدر ما كان يهتم بنشر الدعوة الإسلامية، ولذلك لم يضع دستورا للحكم من بعده، ولم يتحدث عن أسلوب تداول السلطة وطريقة انتخاب الحاكم أو صلاحياته، ولا عن تفاصيل العلاقة بين الحاكم والمحكوم غير الالتزام بالعدل والطاعة في المعروف، كما لم يؤسس مجلسا للشورى يضمن انتقال السلطة بعده بشكل آلي إلى من يريد. وإنما أعطى الأمة كلها الحق بإقامة نظامها السياسي المدني، وأوكل إليها مهمة مراقبة ذلك النظام ومحاسبته وتغييره.
  ومن هنا لم يترك النبي محمد (ص) بعده حكومة دينية مشابهة للحكومات اليهودية القديمة التي كان يقودها الكهنة والأحبار، أو مشابهة للحكومات المسيحية التي كان يقودها القياصرة بدعم من بابوات الكنيسة في العصور الوسطى. حيث لم يقر الرسول نظام ازدواج السلطتين الزمنية والدينية. ولم يؤسس سلطة دينية كالكنيسة عند المسيحيين، ولم يَكِل إليها مهمة منح الشرعية للملوك ولا مهمة محاسبتهم أو مراقبتهم. وترك النبي (ص) المسلمين في حالة الطبيعة أحراراً متساويين، دعاهم الى التزام العدل وحثهم على عمل الخير، وعلمهم ممارسة الشورى والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ولم يعين أحدا خليفة من بعده.

وفي هذا إجابة عن السؤال الثاني، أي عدم ضرورة كون الحكام امتداداً للرسالة، ولا كون النظام السياسي جزءا من الدين الإسلامي. كما أن فيه إجابة أولية عن السؤال عن طبيعة التشيع الأولى وفيما إذا كانت سياسية أم دينية.

آية الولاية وحديث الغدير

 وأما آية "أولي الأمر" التي يقول الله تعالى فيها:"يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم". (النساء 59) التي يحتج بها الشيعة الإمامية في الاستدلال على كون الإمامة جزءا من الدين، وأن التشيع الأول كان دينيا، فإنها لا تدل على المطلوب، لأنها لم تكن بصدد تشريع مرجعية ثالثة دينية أو سياسية في إزاء الله والرسول، بل كانت تأمر المسلمين بالعودة الى الله والرسول في حالة الاختلاف مع أولي الأمر، حيث تكمل الآية:" فان تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول، إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر، ذلك خير وأحسن تأويلا". وهو ما يلغي كون "أولي الأمر" امتدادا للرسالة الإسلامية، أو تشكيلهم لأية حجية مرجعية في مقابل الله والرسول.
  ولم تكن النصوص النبوية التي تشيد بفضل الإمام علي، والتي سوف يتخذها الإمامية  فيما بعد دليلا على قِدم "التشيع الديني"، تعني النص على الإمام بالخلافة أو الوصية إليه بالإمامة، ولذلك قال العباس بن عبد المطلب (الذي كان حريصا على أمر الخلافة) للإمام علي، في مرض النبي الذي توفي فيه:" ...إنك بعد ثلاث عبد العصا، وإني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبد المطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا، فقال علي بن أبي طالب: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبدا، والله لا أسألها رسول الله أبدا". [6] وبعد وفاة رسول الله (ص) حاول العباس اقتناص الفرصة فقال لابن أخيه علي بن أبي طالب:"امدد يدك أبايعك وآتيك بهذا الشيخ من قريش (يعني أبا سفيان) فيقال: عم رسول الله بايع ابن عمه، فلا يختلف عليك من قريش اثنان، والناس تبع لقريش". كما عرض أبو سفيان على الإمام علي أن يبايعه قائلا:" امدد يدك أبايعك، فلأملأنها خيلا ورجلا". ولكن الإمام رفض الاستجابة لهما.[7]  
   وهذا دليل على عدم شعور الإمام علي بالنص عليه من الله كخليفة مباشر للرسول الأعظم (ص) ، وإلا لكان استجاب لزعماء قريش واستعان بهم لقلب الطاولة على أبي بكر.
   وأما موضوع الوصية من النبي (ص) للإمام علي، والتي يعتبرها الإمامية أيضا دليلا آخر على ارتباط الإمامة بالنبوة، فإنها لم تكن تعني الإمامة والخلافة، وإنما كانت وصية شخصية حسبما يقول الإمام جعفر الصادق:" انه لما حضرت رسول الله (ص) الوفاة ؛ دعا العباس بن عبد المطلب وأمير المؤمنين، فقال للعباس: يا عم محمد..تأخذ تراث محمد وتقضي دينه وتنجز عداته؟..فرد عليه فقال: يا رسول الله بأبي أنت وأمي إني شيخ كبير كثير العيال قليل المال من يطيقك وأنت تباري الريح. قال فأطرق هنيهة ثم قال: يا عباس أتأخذ تراث محمد وتنجز عداته وتقضي دينه؟ .. فقال كردِّ كلامه.. قال: أما أني سأعطيها من يأخذ بحقها. ثم قال: يا علي يا أخا محمد أتنجز عدات محمد وتقضي دينه وتقبض تراثه؟.. فقال: نعم بأبي أنت وأمي ذاك عليَّ وليَ، قال: فنظرت إليه حتى نزع خاتمه من إصبعه فقال: تختم بهذا في حياتي، قال: فنظرت إلى الخاتم حين وضعته في إصبعي فتمنيت من جميع ما ترك الخاتم. ثم صاح يا بلال علَيَّ بالمغفر والدرع والراية والقميص وذي الفقار والسحاب والبرد والأبرقة والقضيب... ثم دعا بزوجي نعال عربيين جميعا أحدهما مخصوف والآخر غير مخصوف، والقميصين: القميص الذي اسري به فيه والقميص الذي خرج فيه يوم أحد، والقلانس الثلاث: قلنسوة السفر وقلنسوة العيدين والجمع، وقلنسوة كان يلبسها ويقعد مع أصحابه.  ثم قال: يا بلال علي بالبغلتين: الشهباء والدلدل، والناقتين: العضباء والقصوى، والفرسين: الجناح كانت توقف بباب المسجد لحوائج رسول الله (ص) يبعث الرجل في حاجته فيركبه فيركضه في حاجة رسول الله (ص) وحيزوم وهو الذي كان يقول: أقدم حيزوم، والحمار عفير فقال: أقبضها في حياتي". ".[8] وهذه الوصية كما هو ملاحظ وصية عادية شخصية آنية، لا علاقة لها بالسياسة والإمامة الخلافة الدينية، وقد عرضها الرسول في البداية على العباس بن عبد المطلب فأشفق منها، وتحملها الإمام علي طواعية.
  وحتى "حديث الغدير" الذي ورد أن النبي قال فيه:"من كنت مولاه فهذا علي مولاه". والذي يعتبره الإمامية أعظم دليل على ابتداء "التشيع الديني" في زمن الرسول، فانه لم يكن يعني النص والتعيين بالخلافة، ولم يفهم أحد ذلك المعنى منه، حتى الإمام علي نفسه، الذي بايع أبا بكر وعمر وعثمان، ولم يستلم الخلافة إلا بعد بيعة الناس له، عقب مقتل عثمان، بيعةً عامةً في المسجد. وحسبما يقول الإمام محمد الباقر فإن الإمام علي لم يدعُ إلى نفسه وأقر القوم على ما صنعوا وكتم أمره.[9]
  وإذا كان الإمام علي قد أمسك يده عن بيعة أبي بكر لفترة من الوقت، فلأنه كان يشعر بأنه أولى منه بالخلافة، وقد عبر عن ذلك بقوله:"إنهم احتجوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة".[10] ولكنه عاد فبايع أبا بكر، خصوصا بعد حدوث الردة، حيث مشى إليه عثمان بن عفان فقال له:" يا ابن عم انه لا يخرج أحد إلى قتال هؤلاء وأنت لم تبايع" فأرسل إلى أبي بكر أن يأتيه، فأتاه أبو بكر فقال له:" والله ما نفسنا عليك ما ساق الله إليك من فضل وخير، ولكنا كنا نظن أن لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا" وخاطب المسلمين قائلا: "إنه لم يحبسني عن بيعة أبي بكر ألا أكون عارفا بحقه، ولكنا نرى أن لنا في هذا الأمر نصيبا استبد به علينا" ثم بايع أبا بكر، فقال المسلمون:"أصبت وأحسنت".[11]

الإمام علي والشورى

  ومما يؤكد على كون التشيع في العهد الأول سياسيا وليس دينيا، هو إيمان الإمام علي بحق الأمة في السلطة والشورى، وبحق جميع المسلمين في الترشيح للخلافة والانتخاب حيث يقول: "الواجب في حكم الله وحكم الإسلام على المسلمين بعدما يموت إمامهم أو يقتل .. أن لا يعملوا عملاً ولا يحدثوا حدثاً ولا يقدموا يداً ولا رجلاً ولا يبدءوا بشيء قبل أن يختاروا لأنفسهم إماماً عفيفاً عالماً ورعاً عارفاً بالقضاء والسنة".[12] ويقول في خطبة له: " أيها الناس.. إن أحق الناس بهذا الأمر أقواهم عليه وأعلمهم بأمر الله فيه".[13] "وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء والمغانم والأحكام وإمامة المسلمين البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلهم بجهله، ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه، ولا الحائف للدول، فيتخذ قوماً دون قوم، ولا المرتشي، فيذهب بالحقوق ويقف بها دون المقاطع ، ولا المعطل للسنة، فيهلك الأمة".[14]
  وعندما أقبل الناس على الإمام علي، بعد مقتل عثمان، يعرضون عليه البيعة، قال لهم: "لا تعجلوا فإن عمر كان رجلا مباركا، وقد أوصى بها شورى، فأمهلوا يجتمع الناس ويتشاورون".[15] وأمسك يده قائلا: "ليس ذلك إليكم وإنما هو لأهل الشورى وأهل بدر". وفي رواية أخرى قال:" إنما الشورى للمهاجرين والأنصار، فإن اجتمعوا على رجل وسموه إماما كان ذلك لله رضى".[16]   وقال:" دعوني والتمسوا غيري ... واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم، ولم أصغِ إلى قول القائل وعتب العاتب، وإن تركتموني فأنا كأحدكم، ولعلي أسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم، وأنا لكم وزيراً خير لكم مني أميراً".[17]
   ويقول الطبري إن الإمام علي مشى إلى طلحة والزبير فعرض عليهما البيعة، وقال: من شاء منكما بايعته. فقالا: لا.. الناس بك أرضى.[18]
   وعندما أصر الثوار على اختيارهم له، قال الإمام علي: " فان أبيتم ..فان بيعتي لا تكون سراً، ولا تكون إلا عن رضا المسلمين..ولكن اخرج إلى المسجد فمن شاء أن يبايعني فليبايعني. و إن كرهني رجل واحد من الناس لم ادخل في هذا الأمر".[19]
    وعندما أصبح الإمام علي خليفة، لم يعامل المسلمين كإمام معصوم مفروض عليهم من الله، كما يقول الإمامية، ولذلك لم يصادر حق الأمة في نقده ومراقبته ومحاسبته، بل كان يحضهم على ذلك، ويذكرهم بضرورة قيامهم بدورهم، والنظر إليه باعتدال، فقال: " ... لا تكلموني بما تُكلم به الجبابرة، ولا تتحفظوا مني بما يُتحفظ به عند أهل البادرة، ولا تخالطوني بالمصانعة، ولا تظنوا بي استثقالاً في حقٍ قيل لي، ولا التماس إعظام لنفسي لما لا يصلح لي، فانه من استثقل الحق أن يقال له أو العدل أن يعرض عليه كان العمل بهما أثقل عليه .. فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل ، فإني لست في نفسي بفوق أن أخطئ ولا آمن ذلك من فعلي ، إلا أن يكفي الله من نفسي ما هو أملك به مني . فإنما أنا وأنتم عبيد مملوكون لرب لا رب غيره يملك منا ما لا نملك من أنفسنا...".[20]
   وذهب الإمام إلى مطالبة الأمة بممارسة حق المعارضة المشروعة في وجهه فيما لو تجاوز القوانين الإسلامية أو اعتدى على حق مواطن فقتله أو اعتقله دون ذنب، فقال في خطبة له تحدث فيها عن الخارجي "الخريت بن ناجية" ومحاولاته السابقة لدفع الإمام لقتل واعتقال عدد من زعماء المعارضة، وقول الإمام له ولعموم الناس أن من واجبهم الوقوف أمامه ومنعه إذا أراد هو أن يفعل ذلك، والقول له :"اتق الله!".[21]
 
  ولأن الإمام علي كان يؤمن بحق الأمة في اختيار الإمام، ولا يؤمن بأن الإمامة امتداد للنبوة، فقد ترك الأمرَ من بعده شورى لعامة المسلمين ولم ينصّ على أحد من ولده.[22] وعندما طلب منه المسلمون أن يستخلف ابنه الحسن­، قال:" لا ، إنا دخلنا على رسول الله فقلنا­: استخلف، فقال :­ لا ..­ أخاف ان تفرقوا عنه كما تفرقت بنو إسرائيل عن هارون، ولكن إن يعلم الله في قلوبكم خيراً يختر لكم ".[23] وسألوا علياً ان يشير عليهم بأحد، فرفض، فقالوا له­ إن فقدناك فلا نفقد أن نبايع الحسن، فقال­:" لا آمركم ولا أنهاكم، أنتم أبصر".[24] وفي رواية أخرى: إنه أوصى بنيه وأهله وخاصة شيعته قائلاً:" دعوا الناس وما رضوا لأنفسهم وألزموا أنفسكم السكوت"[25].  وقد قام الإمام أمير المؤمنين فعلا بالوصية إلى الإمام الحسن وسائر أبنائه، ولكنه لم يتحدث في الوصية عن الإمامة أو الخلافة، حيث كانت وصيته شخصية وروحية وأخلاقية.‌[26]
   وذكر المؤرخون: أنه لما توفي الإمام علي خرج عبد الله بن عباس  إلى الناس فقال: إن أمير المؤمنين توفي، وقد ترك خلفا، فان أحببتم خرج إليكم، وان كرهتم فلا أحد على أحد. فبكى الناس وقالوا: بل يخرج إلينا.[27]

الإمام الحسن والشورى
   ومما يؤكد طبيعة التشيع "السياسية" في العهد الأول، هو إيمان الإمام الحسن بن علي بالشورى وموقفه من الخلافة،  حيث لم يتشبث بها كما لو أنها كانت جزءا متمما للنبوة، بل على العكس من ذلك قام بالتنازل عن الخلافة إلى خصم أبيه اللدود معاوية بن أبي سفيان، واشترط عليه العودة بعد وفاته إلى نظام الشورى، حيث قال في شروط الصلح­: "...على انه ليس لمعاوية أن يعهد لأحد من بعده، وأن يكون الأمر شورى بين المسلمين".[28] ولو كانت الإمامة من الله وجزءا من الدين لم يكن يجوز للإمام الحسن التنازل عنها إلى معاوية تحت أي ظرف من الظروف، ولم يكن يجوز له بعد ذلك أن يبايع معاوية أو أن يدعو أصحابه وشيعته لبيعته، ولم يكن يجوز له أن يهمل الإمام الحسين وإنما كان يجب أن يشير إليه من بعده .. ولكن الإمام الحسن لم يفعل أي شيء من ذلك وسلك مسلكا يوحي بالتزامه بحق المسلمين في انتخاب خليفتهم عبر الشورى.

الإمام الحسين والشورى
  ومما يبين طبيعة التشيع "السياسية" في العهد الأول، هو موقف الإمام الحسين بن علي من مبدأ الشورى المناقض تماما لمبدأ النص والوصية. وكذلك موقف شيعة الكوفة الذين لم يتحدثوا عن أي مفهوم بالحق "الإلهي" للحسين بالإمامة، عندما طلبوا منه أن يُقدم إليهم، فقد فعلوا ذلك إيمانا منهم بأفضلية الحسين على يزيد بن معاوية الذي فرضه أبوه بالقوة والإكراه، حيث اجتمع زعماؤهم وكتبوا: "للحسين بن علي، من سليمان بن صرد، والمسيب بن نجيبة، ورفاعة بن شداد البجلي، وحبيب بن مظاهر وشيعته المؤمنين والمسلمين من أهل الكوفة: سلام عليك فإنا نحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو.. أما بعد: فالحمد لله الذي قصم عدوك الجبار العنيد الذي انتزى على هذه الأمة فابتزها أمرها وغصبها فيئها وتأمر عليها بغير رضى منها، ثم قتل خيارها واستبقى أشرارها، وجعل مال الله دولة بين جبابرتها وأغنيائها، فبعدا له كما بعدت ثمود. انه ليس علينا إمام، فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق. والنعمان بن بشير في قصر الإمارة لسنا نجتمع معه في جمعة ولا نخرج معه إلى عيد، ولو بلغنا أنك قد أقبلت الينا أخرجناه حتى نلحقه بالشام ان شاء الله". فكتب إليهم:" من الحسين بن علي إلى الملأ من المؤمنين والمسلمين.. أما بعد فإن هانيا وسعيدا قدما علي بكتبكم، وكان آخر من قدم علي من رسلكم وقد فهمت كل الذي اقتصصتم وذكرتم ومقالة جلكم:"أنه ليس علينا إمام فاقبل لعل الله أن يجمعنا بك على الحق والهدى" وإني باعث إليكم أخي وابن عمي وثقتي من أهل بيتي مسلم بن عقيل، فان كتب إلي أنه قد اجتمع رأي ملأكم وذوي الحجى والفضل منكم على مثل ما قدمت به رسلكم وقرأت في كتبكم؛ فإني أقدم إليكم وشيكا إن شاء الله. فلعمري ما الإمام إلا الحاكم بالكتاب، والقائم بالقسط، الداين بدين الحق، الحابس نفسه على ذات الله، والسلام". [29]
   وفي هاتين الرسالتين نقرأ "التشيع السياسي" بوضوح، حيث تحدثت رسالة شيعة الكوفة عن النزو على الأمة وابتزاز أمرها والتأمّر عليها بغير رضا منها من قبل معاوية، مما شكل دافعا لهم للثورة على ابنه يزيد، وممارسة حقهم بانتخاب الإمام الحسين ودعوته للبيعة، كما تحدثت رسالة الحسين عن عملية الدعوة والانتخاب، ومواصفات الإمام الشرعية المطلوبة، والتي لم يكن من بينها أية إشارة إلى "الإمام المعصوم المعين من قبل الله" أو إلى أي حق شخصي بالخلافة لأنه "ابن الإمام علي أو أنه معين من قبل الله".
 ومن هنا لم يفكر الإمام الحسين بنقل "الإمامة" إلى أحد من ولده، ولم يوصِ إلى ابنه الوحيد الذي ظل على قيد الحياة (علي زين العابدين)، وإنما أوصى إلى أخته زينب أو ابنته فاطمة، بوصيته عادية جدا تتعلق بأموره الخاصة ورعاية الأطفال، ولا تتحدث أبدا عن موضوع الإمامة والخلافة.[30]
    و مما يؤكد عدم وجود "التشيع الديني" في ذلك الوقت، عدم إشارة الإمام علي بن الحسين إليه، في خطبته الشهيرة التي ألقاها بشجاعة أمام يزيد بن معاوية في المسجد الأموي، عندما أخذ أسيرا إلى الشام، وقد قال في خطبته تلك:"أيها الناس أُعطينا ستاً وفُضلنا بسبع: أُعطينا العلم والحلم والسماحة والفصاحة والشجاعة والمحبة في قلوب المؤمنين، وفُضلنا بسبع: بأن منا النبي والصديق والطيار وأسد الله وأسد رسوله وسبطا هذه الأمة". ولم يشر الإمام زين العابدين في خطبته الجريئة تلك  إلى موضوع الوصية أو الإمامة الإلهية، أو إلى وراثة الإمامة بالنص، ولم يقل للناس أنه الإمام الشرعي المفترض الطاعة بعد أبيه الحسين، وإنما اكتفى بالحديث عن فضل أهل البيت وفضائل الإمام علي وإنجازاته التاريخية.
   كما أن سيرة الإمام علي بن الحسين تؤكد بعده عن مفهوم "التشيع الديني" حيث بايع يزيدَ بن معاوية، بعد "واقعة الحرة".[31] ورفض قيادة الشيعة الذين كانوا يطالبون بالثأر لمقتل أبيه الحسين، ويعدون للثورة. واعتزل السياسة، ولم يدّعِ الإمامة، ولم يتصدَّ لها.  وكما يقول الشيخ الصدوق (شيخ الإمامية في أواسط القرن الرابع الهجري): " فانه انقبض عن الناس فلم يلقَ أحدا ولا كان يلقاه إلا خواص أصحابه، وكان في نهاية العبادة ولم يخرج عنه من العلم إلا يسيرا".[32]
حركة التوابين الشيعية والشورى
  ومما يكمل صورة "التشيع السياسي" في القرن الهجري الأول، هو عدم اتباع الشيعة في الكوفة بعد مقتل الحسين، لأحد من أهل البيت، وقيامهم بانتخاب زعيم لهم من بينهم على أساس مبدأ الشورى، وهو سليمان بن صرد الخزاعي.[33] الذي قاد حركة "التوابين" التي انطلقت للثأر من قتلة الحسين سنة 65 للهجرة.
حركة المختار
   ومما يؤكد طبيعة التشيع "السياسية" في تلك الأيام، قيام المختار بن عبيد الثقفي (الذي ظهر في الكوفة سنة 67 هـ) بإعلان الولاء لأهل البيت بصورة عامة، دون تحديد في سلالة معينة، أو شخص معين، أو التزام بنظرية خاصة "دينية" كنظرية "الإمامة الإلهية" التي لم يكن لها وجود في ذلك الزمن، ولذلك عرض المختار قيادة الشيعة في البداية على علي بن الحسين وكتب إليه يريده على أن يبايع له ويقول بإمامته ويظهر دعوته، فأبى أن يجيبه عن كتابه، فلما يئس المختار منه كتب إلى عمه محمد بن الحنفية يريده على مثل ذلك، وأخذ يدعو إلى إمامته. وقد استلم ابن الحنفية قيادة الشيعة فعلاً ، ورعى قيام دولة المختار التي دامت بضعة شهور.  
ومما يؤكد الطبيعة "السياسية" للتشيع العام في القرن الأول الهجري، عدم معرفة جماهير الشيعة لنظرية "الإمامة الإلهية" التي قام على ضوئها "التشيع الديني" ما عدا الفرقة "السبئية" أتباع "عبد الله بن سبأ" الذي كان أول من شهر القول بفرض إمامة علي وأظهر البراءة من أعدائه وكاشف مخالفيه، كما يقول المتكلم الشيعي حسن بن موسى النوبختي.[34]
الحركات الشيعية  في القرن الثاني الهجري
  وقد استمر التشيع "السياسي" الى القرن الثاني الهجري، وتبناه معظم أهل البيت وعامة الشيعة، ما عدا بعض أعضاء الحركة "الكيسانية" الذين تأثروا بالفكر السبئي ثم انتقلوا  إلى شيعة الإمامين محمد بن علي الباقر وجعفر الصادق، ونسبوا فكرة "الإمامة الإلهية" إليهما سراً، وعرفوا بـ"الرافضة" واشتهروا فيما بعد باسم "الإمامية". وسوف نتحدث عنهم في الفصل القادم بالتفصيل. ولكن ما يهمنا القول هنا هو أن عامة الشيعة في زمان الباقر والصادق ظلوا متمسكين بالفكر الشيعي الأول "السياسي". وبرز الإمام زيد بن علي كزعيم يؤمن بالشورى كنظام للحكم في الإسلام، حيث لم يكن يعرف نظرية "الإمامة الإلهية" (القائمة على العصمة والنص والوراثة في أهل البيت) بل كان يعتقد بأن الإمامة تستحق بالمبادرة والكفاءة، وكان يقول:" ليس الإمام منا من جلس في بيته وأرخى ستره وثبط عن الجهاد ، ولكن الإمام منا من منع حوزته وجاهد في سبيل الله حق جهاده ودفع عن رعيته وذب عن حريمه".[35] وقد استغرب الإمام زيد من كلام أحد الشيعة "الرافضة" في الكوفة وهو (محمد بن علي بن النُعمان ، الملقب بمؤمن الطاق أو شيطان الطاق) الذي رفض الالتحاق بثورته وتعلل بأنه (أي زيد) ليس حجة من الله، فقال له زيد:" يا أبا جعفر كنت أجلس مع أبي على الخوان فيلقمني البضعة السمينة ويبرد لي اللقمة الحارة حتى تبرد شفقة علي ولم يشفق علي من حر النار إذ أخبرك بالدين ولم يخبرني به؟". [36]
  وتبعا لمفهوم "التشيع السياسي" القائم على فكرة "الأولوية" قالت أحزاب شيعية عديدة في القرن الثاني الهجري:" إن علياً كان أولى الناس بعد رسول الله لفضله وسابقته وعلمه، وهو أفضل الناس كلهم بعده، وأشجعهم وأورعهم وأزهدهم". وأجازوا مع ذلك إمامة أبى بكر وعمر وعدوهما أهلا لذلك المكان والمقام، وذكروا: "إن عليا سلَّم لهما الأمر ورضي بذلك وبايعهما طائعا غير مكره وترك حقه لهما، فنحن راضون كما رضي المسلمون له، ولمن بايع ، لا يحل لنا غير ذلك، ولا يسع منا أحدا إلا ذلك ، وإن ولاية أبى بكر صارت رشدا وهدى لتسليم علي ورضاه". وان منهم من ذهب الى "أن عليا أفضل الناس بعد رسول الله (ص) ولكن كان جائزا للناس أن يولوا عليهم غيره، إذا كان الوالي الذي يولونه مجزئا، أحب علي ذلك أم كرهه، فولاية الوالي الذي ولوا على أنفسهم برضا منهم رشد وهدى وطاعة لله، وطاعته واجبة من الله عز وجل".[37]  وهو ما يدل على عدم إيمانهم بنظرية "النص والتعيين" أو التشيع "الديني".
    ويتحدث المؤرخون عن ثلاث فرق رئيسية من الزيدية الذين كانوا يشكلون امتدادا للتشيع العلوي "السياسي"، كلها تتبنى نظرية الشورى بشكل أو بآخر، وعلى رأسها الفرقة "البترية" و"الجارودية" و"السليمانية".
   أما "البترية" فهم أصحاب كثير النوا، والحسن بن صالح بن حي (توفي سنة 168هـ) وسالم بن أبي حفصة (توفي سنة 137هـ ) والحكم بن عتيبة (توفي سنة 114 أو 115 هـ)، وسلمة بن كهيل (توفي سنة121هـ) وأبي المقدام ثابت الحداد، الذين كانوا يؤمنون بولاية علي ويجمعون بينها وبين ولاية أبي بكر وعمر، ولكنهم كانوا يفضلون عليا ويثبتون إمامة أبي بكر، ويرون الخروج مع كل ولد علي يذهبون في ذلك إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويثبتون لمن خرج من ولد علي الإمامة عند خروجه، ولا يقصدون في الإمامة قصد رجل بعينه، حتى يخرج، وعندهم كل ولد علي على السواء من أي بطن كان.[38]
 وأما "السليمانية" فهم أتباع (سليمان بن جرير الرقي) الذي قال: إن الإمامة شورى وانها تنعقد بعقد رجلين من خيار الأمة، وأجاز إمامة المفضول وأثبت إمامة أبي بكر وعمر، وزعم أن الأمة تركت الأصلح في البيعة لهما لأن عليا كان أولى بالإمامة منهما، إلا أن الخطأ في بيعتهما لم يوجب كفرا ولا فسقا.  
  وأما "الجارودية" فهم أتباع (أبي الجارود زياد بن أبي زياد الهمذاني الكوفي) الذين كانوا ينفون وجود نص صريح على الإمام علي بالإمامة، ويقولون: "انه كان بالوصف دون التسمية". وقالوا نتيجة لذلك : إن إمامة علي بن أبي طالب ثابتة في الوقت الذي دعا الناس واظهر أمره ، ثم كان الحسين بعده إماما عند خروجه ، ثم زيد بن علي ..ثم من دعا إلى طاعة الله من آل محمد فهو إمام ، وقد رفض الجارودية وعامة الزيدية حصر الإمامة في أولاد الحسين، واعتبروا من يقول ذلك خارجا عن الدين ، وقالوا انها (شورى) في أولادهما جميعا، وان الإمامة صارت بعد الحسين باختيار أهل البيت وإجماعهم  على رجل منهم ورضاهم به . وقد انقسموا فيما بعد إلى تيارات عديدة، وربما قال بعضهم بالنص على الأئمة الثلاثة الأوائل (علي والحسن والحسين) تأثرا بالإمامية، ولكنهم كانوا يبنون نظريتهم في الإمامة بصورة عامة، على أساس الشورى والتصدي والخروج (الثورة) وليس على أساس النص ، وخاصة بعد الحسن والحسين.[39]
  والى جانب هؤلاء كان فريق آخر من الزيدية يُدعى "الحسينية" وهؤلاء كانوا يقولون أيضا: من دعا إلى الله عز وجل من آل محمد فهو مفترض الطاعة، وكان علي إماما في وقت ما دعا الناس وأظهر أمره، ثم كان بعده الحسين إماما عند خروجه، ثم زيد بن علي، ثم يحيى بن زيد، ثم عيسى بن زيد، ثم محمد بن عبد الله بن الحسن، ثم من  دعا إلى طاعة الله من آل محمد فهو إمام.[40]
  وحكى أبو الحسن الأشعري في مقالته، عن قوم من الزيدية يقال لهم "اليعقوبية" أتباع رجل اسمه يعقوب، أنهم كانوا يتولون أبا بكر وعمر ولكنهم لا يتبرأون ممن تبرأ منهما. [41]
   وفيما عدا "الجارودية" كان موقف الشيعة الزيدية بصورة عامة معتدلا ومعقولاً وأقرب الى التشيع العلوي "السياسي"، أي أنهم لم يكونوا يؤمنون  بنظرية النص والوراثة وحصر العلم الديني في أهل البيت، فقد كانوا يقولون:" بأن العلم مبثوث مشترك فيهم وفي عوام الناس هم والعوام من الناس فيه سواء، فمن أخذ منهم علما لدين أو دنيا مما يحتاج إليه أو أخذه من غيرهم من العوام فموسع له ذلك، فان لم يوجد عندهم ولا عند غيرهم مما يحتاجون إليه من علم دينهم فجائز للناس الاجتهاد والاختيار والقول بآرائهم".[42] 
  وقد التف عامة الشيعة حول الإمام زيد بن علي، والتفوا من بعد زيد حول ابنه يحيى الذي قام بثورة أخرى ضد النظام الأموي سنة 125 .. وبعد فشل هاتين الثورتين بثلاثة أعوام تفجرت ثورة شيعية أخرى واسعة بقيادة أحد الطالبيين: "عبد الله بن معاوية بن عبد الله بن جعفر الطيار". وهي الثورة التي شاركت فيها جماهير الشيعة في مختلف مدن العراق وامتدت إلى الماهين وهمذان وقومس واصبهان والري وفارس ـ وكان شعار الثورة : "إلى الرضا من آل محمد" دون تحديد في شخص معين، وهي دعوة عموم الشيعة في ذلك الحين، وقد اتخذ عبدالله بن معاوية من اصبهان مركزا لدعوته وحركته ومناطق نفوذه، وبعث إلى الهاشميين علويين وعباسيين يدعوهم إليه ليساهموا معه في إدارة البلاد التي سيطر عليها فقدم عليه منهم عدد كبير، وذلك قبل أن تنهار دولته أمام جيش أبي مسلم الخراساني.
  والتف عامة الشيعة العلوية بعد ذلك حول محمد بن عبد الله بن الحسن ذي النفس الزكية. ولأن التشيع حينئذ كان "سياسيا" فقد انضم قادة المعتزلة كعمرو بن عبيد وواصل بن عطاء إلى حركة الإمام ذي النفس الزكية، إمام الزيدية في وقته... وبناء على ذلك ذهب عمرو بن عبيد إلى جعفر الصادق وطلب منه الانضمام لبيعة النفس الزكية، وقال له:" قتل أهل الشام خليفتهم، وضرب الله بعضهم ببعض، وتشتت أمرهم، فنظرنا فوجدنا رجلا له دين وعقل ومروة ومعدن للخلافة، وهو محمد بن عبد الله بن الحسن، فأردنا أن نجتمع معه فنبايعه، ثم نظهر أمرنا معه، وندعو الناس إليه، فمن بايعه كنا معه وكان منا، ومن اعتزلنا كففنا عنه، ومن نصب لنا جاهدناه، ونصبنا له على بغيه، ونرده إلى الحق وأهله، وقد أحببنا أن نعرض ذلك عليك، فإنه لا غنى بنا عن مثلك لفضلك، ولكثرة شيعتك" فلما فرغ، قال أبو عبد الله: أخبرني يا عمرو لو أن الأمة قلدتك أمرها وولتك بغير قتال ولا مؤونة وقيل لك: ولِّها من شئت، من كنت توليها؟ قال: كنت أجعلها شورى بين المسلمين قال: بين المسلمين كلهم؟ قال: نعم، قال: بين فقهائهم وخيارهم؟ قال: نعم، قال: قريش وغيرهم؟ قال: نعم، قال: والعرب والعجم؟ قال: نعم.[43]
    لقد كان الفكر الشيعي العام يقوم على أساس الولاء السياسي لأئمة أهل البيت، وكان هؤلاء يعتقدون بحق الأمة الإسلامية في اختيار أئمتها، وبضرورة ممارسة الشورى، ويدينون الاستيلاء على السلطة بالقوة. ولم يكونوا يعرفون "التشيع الديني". ولعلنا نجد في الحديث الذي يرويه الشيخ الصدوق عن الإمام الرضا عن أبيه الكاظم عن أبيه جعفر الصادق عن أبيه محمد الباقر عن علي بن الحسين عن الحسين بن علي عن أبيه عن جده رسول الله (ص) والذي يقول فيه:" من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه ، فان الله عز وجل قد أذن ذلك". [44] لعلنا نجد في هذا الحديث أفضل تعبير عن إيمان أهل البيت بالشورى والتزامهم بها. ولئن كانوا يدعون الناس إلى اتباعهم والانقياد إليهم فإنما كانوا يفعلون ذلك إيمانا بأفضليتهم وأولويتهم بالخلافة في مقابل الحكام الذين كانوا لا يتبعون الكتاب ولا يقيمون القسط ولا يدينون بالحق. وهو ما يثبت الطبيعة "السياسية" لا "الدينية" للتشيع.
وسوف نبحث في الفصول القادمة نشوء القول بنظرية "الإمامة الإلهية" أو ما يعرف بالتشيع "الديني"، وكيفية تطوره ومآله والظروف التي أحاطت به وأهم رجاله.




[1]  - فياض، عبد الله، تاريخ الإمامية وأسلافهم من الشيعة، ص 44، مؤسسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1986
[2]  -  المصدر السابق، ص 47 نقلا عن الخوارج والشيعة، ص 148
[3]  - سيرة ابن هشام، الجزء الثاني، ص 61
[4] -  فقد بعث  إلى أمير الغساسنة في دمشق الحارث بن شمر الغساني، كتابا يقول فيه: " السلام على من اتبع الهدى وآمن به ، أدعوك إلى أن تؤمن بالله وحده لا شريك له يبقى لك ملكك". (تاريخ ابن خلدون ج2 ص 36) وقال للرسولين اللذين بعثهما باذان بن ساسان عامل كسرى على اليمن:" قولا له: إن ديني وسلطاني يبلغ ما بلغ كسرى، وان أسلمت أعطيتك ما تحت يدك وملكتك على قومك من الأبناء". (المصدر، ج2 ص 38 )  وكتب إلى المنذر بن ساوي العبدي عامل كسرى على البحرين:"...سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك إلى الإسلام فأسلم تسلم يجعل الله لك ما تحت يديك. واعلم أن ديني سيظهر إلى منتهى الخف والحافر". (مكاتيب الرسول، ص 145 ) كما كتب إلى هوذة بن علي ملك اليمامة: "... أسلم تسلم ، واجعل لك ما تحت يديك". (المصدر، ص 156) وكتب إلى جيفر وعبد ابني الجلندي في عمان يدعوهما بدعاء الإسلام ، ويقول لهما: "اسلما تسلما، فإني رسول الله إلى الناس كافة، لأنذر من كان حيا ويحق القول على الكافرين. وإنكما ان أقررتما بالإسلام وليتكما، وان أبيتما ان تقرا بالإسلام فان ملككما زائل، وخيلي تحل بساحتكما، وتظهر نبوتي على ملككما". (المصدر، ص 162)  وعندما عاهد النبي  أهل مقنا، اتفق معهم على"...ان ليس عليكم أمير إلا من أنفسكم". (المصدر، ص 120 و 122)
[5] - جاء في رسالته الى كسرى : " بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. من محمّد رسول اللّه إلى كسرى عظيم  فارس. سلام على من اتبع الهدى وآمن باللّه ورسوله، وأشهد أن لا إله إلاّ اللّه وحده لا شريك له وأن ّمحمّداً عبده ورسوله، أدعوك بدعاية اللّه، فإنّي أنا رسول اللّه كافة لأَنذر من كان حياً، ويحق القول على الكافرين. أسلم تسلم. فإن أبيت فعليك إثم المجوس".
[6]  - الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج4  ص 313 ، 194 وسيرة ابن هشام، ج 2 ص 371
[7] - الطبري، ج 2 ص 120 والقاضي الهمداني، عبد الجبار، المغني في التوحيد والإمامة، ج20 ص 238
[8] - الكليني، الكافي، كتاب الحجة، باب ما عند الأئمة من سلاح رسول الله، ح رقم 9 و ج 1 ص 236 والمفيد، الأمالي، ص220 ، المجلس رقم21، والإرشاد، ص 188
[9]  -  الكليني، روضة الكافي، ص 246
[10]  - الإمام علي، نهج البلاغة ، ص 98
[11]  - المرتضى، الشافي، ج 3 ص 242 وهناك روايات أخرى يذكرها الشريف الرضي في "نهج البلاغة" توحي بشعور الإمام علي بالأولوية بالخلافة، مثل قوله:" اللهم إني أستعديك على قريش ومن أعانهم فانهم قد قطعوا رحمي وأكفؤوا إنائي، وأجمعوا على منازعتي حقا كنت أولى به من غيري". (المصدر خطبة رقم 217) وقوله لرجل من بني أسد سأله: كيف دفعكم قومكم عن هذا المقام وأنتم أحق به؟ فقال:يا أخا بني أسد... أما الاستبداد بهذا المقام ونحن الأعلون نسبا والأشد برسول الله (ص) نوطا، فانها كانت أثرة شحت عليها نفوس قوم وسخت عنها نفوس آخرين". (المصدر خطبة رقم 162) وخطبة الشقشقية التي قال فيها:"أما والله لقد تقمصها فلان وانه ليعلم أن محلي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عني السيل ولا يرقى إلي الطير، فسدلت دونها ثوبا وطويت عنها كشحا، وطفقت أرتئي بين أن أصول بيد جذاء أو أصبر على طخية عمياء.. فرأيت أن الصبر على هاتا أحجى، فصبرت وفي العين قذى وفي الحلق شجا، أرى تراثي نهبا.." (خطبة رقم 3)  وقوله:"إن الأئمة من قريش غرسوا في هذا البطن من هاشم ؛ لا تصلح على سواهم، ولا تصلح الولاة من غيرهم". (خطبة رقم 144) وبغض النظر عن المناقشة في سند نهج البلاغة، أو سند هذه الخطب، فانها تشير إلى شعور الإمام علي بأولويته بالخلافة وأحقيته بها، ولا تشير إلى مسألة النص على الإمام علي من الرسول، أو تعيينه خليفة من بعده.
[12]  - كتاب سليم بن قيس الهلالي،  ص 182 والمجلسي: بحار الأنوار ج 8 ص 555 من الطبع القديم
[13]  - الإمام علي، نهج البلاغة ، خطبة رقم 173
[14]  - الإمام علي، نهج البلاغة، خطبة رقم 131
[15]  - الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 3 ص  15
[16]  -  الإمام علي، نهج البلاغة، من كتاب له ، رقم 6
[17]  - الإمام علي، نهج البلاغة، خطبة رقم 92
[18]  - الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج 3 ص 13
[19]  - الطبري، تاريخ الرسل والملوك، ج3 ص 450
[20]  - الإمام علي، نهج البلاغة، خطبة رقم 216
[21]  -  الثقفي، كتاب الغارات، ص 372،  موقع:

[22]  - ولكن نظرا لظروف التأسيس التي كانت تمر بها الأمة الإسلامية، فان الإمام علي كان يعتقد بأن المهاجرين والأنصار أولى من غيرهم، وكان يحاول إعطاء دور سياسي أكبر لهم في مقابل النخبة السياسية القرشية (والأموية خصوصا) ويصر على دور أكبر للأنصار.
[23]  - وفي رواية أخرى : "لا ولكن أدعكم كما ترككم رسول الله (ص) - يعني بغير استخلاف - فإن يرد الله بكم خيرا يجمعكم على خيركم كما جمعكم على خيركم بعد رسول الله (ص)". ابن كثير، البداية والنهاية ج 8 ص 15 
[24] - القاضي الهمداني، عبد الجبار، تثبيت دلائل النبوة ج1 ص 212  والشريف المرتضى، الشافي ج3 ص 295 وأكد ذلك الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا في كتاب ­(مقتل الإمام أمير المؤمنين) والسيوطي ، جلال الدين ، تاريخ الخلفاء، ص 9  
[25] - ذكر الشيخ حسن بن سليمان في (مختصر بصائر الدرجات) عن سليم بن قيس الهلالي ، قال : سمعت عليا يقول وهو بين ابنيه وبين عبد الله بن جعفر وخاصة شيعته ... 
[26]  - المفيد، الإرشاد، ص 187 و الحافظ أبو بكر بن أبي الدنيا، مقتل الإمام أمير المؤمنين، ص 41 – 42 ، تحقيق مصطفى القزويني، مركز الدراسات والبحوث العلمية، بيروت
[27] - المسعودي، مروج الذهب، ج 2 ، ص 44 وابن كثير ، البداية والنهاية، ج 8 ، ص 13، وابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة، ج 4 ، ص 8  و ج 16 ، ص 22
[28]  - المجلسي، بحار الأنوار، ج 44، ص 65 ، باب : كيفية المصالحة، من تاريخ الإمام الحسن المجتبى.  
[29]  -  المفيد، الإرشاد، ص 204
[30]  - راجع : الصدوق، علي بن بابويه، الإمامة والتبصرة من الحيرة، ص 198، والصفار، بصائر الدرجات، ص 148 و 198
[31]  -  الكليني، الكافي، الروضة، ص 196
وكانت "واقعة الحرة" قد حدثت في المدينة المنورة سنة 63 للهجرة بعد قيام أهلها بالثورة على يزيد، بقيادة عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري، فأرسل يزيد إليهم مسلم بن عقبة  فاشتبك  مع أهلها في حادثة شهيرة تسمى "واقعة الحرة" ودخل بعدها المدينة وأعمل في أهلها السيف، ودعا الناسَ للبيعة على أنهم خَوَلٌ ليزيد بن معاوية ، يحكم في دمائهم و أموالهم و أهليهم ما شاء، فمن امتنع من ذلك قتله.
راجع: ابن كثير، البداية والنهاية، ج 8 ص 243 والطبري، تاريخ الرسل والملوك، المجلد الثالث، ص 353 وص 359 والدينوري، ابن قتيبة، الإمامة والسياسة ج1 ص 184 و ص 188 و السيوطي ، جلال الدين ، تاريخ الخلفاء، ص 194 – 195 
[32]  - الصدوق، إكمال الدين، ص 91  ويضيف الصدوق: بأن علي بن الحسين كان يوصي الشيعة بالخضوع للحاكم والطاعة له وعدم التعرض لسخطه، ويتهم الثائرين بالمسئولية عن الظلم الذي يلحق بهم من قبل السلطان.  الصدوق، الأمالي، المجلس 59 ص 396 
[33]  - وذلك عندما اجتمعوا إلى خمسة من رؤوسهم، وقام المسيب بن نجيبة خطيبا فقال:"أيها القوم ولُّوا عليكم رجلا منكم فإنه لا بد لكم من أمير تفزعون إليه، وراية تحفون بها" وقام رفاعة بن شداد فعقب على كلامه قائلا:" قلتَ: ولُّوا أمركم رجلا منكم تفزعون إليه وتحفون برايته، وذلك رأي قد رأينا مثل الذي رأيت، فإن تكن أنت ذلك الرجل تكن عندنا مرضيا وفينا منتصحا وفي جماعتنا محبا، وإن رأيت ورأى أصحابنا ذلك ولينا هذا الأمر شيخ الشيعة صاحب رسول الله (ص) وذا السابقة سليمان بن صرد، المحمود في بأسه والموثوق بحزمه". ثم تكلم عبد الله بن وال، وعبد الله بن سعد فحمدا ربهما وأثنيا عليه... فقال المسيب بن نجيبة:"أصبتم ووفقتم وأنا أرى مثل الذي رأيتم فولُّوا أمركم سليمان بن صرد". تاريخ الطبري، ج 7 ص 48
[34]  - النوبختي،  فرق الشيعة، ص 22
[35]  - ولذلك فقد كان ينظر بإيجابية إلى تجربة الخلفاء الراشدين ويحترم أبا بكر وعمر. وعندما سأله بعض الشيعة عن موقفه من الشيخين قال: "إني لا أقول فيهما إلا خيرا، وما سمعت أبي يقول فيهما إلا خيرا، وإنما خرجت على بني أمية الذين قاتلوا جدي الحسين وأغاروا على المدينة يوم الحرة ثم رموا بيت الله بحجر المنجنيق والنار". البغدادي، الفرق، ص 25 
[36]  - الكليني، الكافي، ج1 ص 174
[37]  - النوبختي، فرق الشيعة، ص 22، والأشعري القمي، المقالات والفرق، ص 18
[38]  - النوبختي،  فرق الشيعة، ص 57

[39] -  النوبختي،  فرق الشيعة، ص 58
[40]  - النوبختي،  فرق الشيعة، ص 58
[41]  - البغدادي، الفرق، ص 25
[42]  - النوبختي،  فرق الشيعة،  ص 56
[43]  - الكليني، الكافي، الفروع، ج5 باب دخول عمرو بن عبيد والمعتزلة على أبي عبد الله، ح رقم 8247 – 1 
[44]  - الصدوق، عيون أخبار الرضا، ج 2 ، ص 62

جميع الحقوق محفوظة للاخ منهاج السنة ابو ابات 2012-2013 | جميع المواد الواردة في هذا الموقع حقوقها محفوظة لدى ناشريها ; فهـرس الـموقــع | سياسة الخصوصية