م/14
الفصل الرابع عشر:
التشيع المعاصر.. ثورة على التشيع "الديني"
بالرغم من أن الفكر "الاثني عشري" الميت لم يكن قادرا على قيادة الأحياء، و لا حل مشاكل الحياة، إلا أنه ربط أيدي الشيعة ومنعهم من التحرك بدعوى وجود الإمام الغائب الذي ينتظر أول فرصة سانحة للظهور. ولكن تلك الفرصة لم تأت منذ أواسط القرن الثالث الهجري إلى اليوم، مما ترك فراغاً كبيرا في الحياة السياسية والعلمية الشيعية، استفاد منه الخلفاء العباسيون في توطيد عروشهم والقضاء على أي أمل بالثورة عليهم من الشيعة الاثني عشرية، كما استغل أكثر من أربع وعشرين شخصا (على رأسهم "النواب الأربعة": عثمان بن سعيد العمري، وابنه محمد، وخليفته النوبختي وعلي بن محمد الصيمري) حكاية وجود الولد (الإمام الغائب) ، ليدَّعوا لأنفسهم "النيابة الخاصة" عنه، ويجبوا المال من الشيعة بدعوى إيصالها الى "الإمام الغائب" (المهدي المنتظر). وعرفت تلك الفترة بـ "الغيبة الصغرى" التي امتدت من سنة 260 هـ (تاريخ غيبة الإمام) إلى سنة 329 هـ.[1] (تاريخ وفاة النائب الرابع والأخير الصيمري). لتبدأ بعد ذلك الفترة التي عرفت لاحقا بـ "الغيبة الكبرى" أي الفترة التي لا وجود فيها لإمكانية اللقاء الشخصي بالإمام (الغائب) قبل ظهوره الذي لا يعلمه إلا الله تعالى. [2]
1 - إنهاء "النيابة الخاصة"
وكان موقف "النائب الخاص الرابع" علي بن محمد الصيمري، بإنهاء قصة "النيابة الخاصة" وعدم الوصية إلى رجل من بعده، والدعوة إلى تكذيب كل من يدعي اللقاء بـ"الإمام الغائب" بداية مسيرة الإصلاح الشيعي، بالرغم من أن الصيمري لم يعلن كفره الصريح بوجود ذلك "الإمام" الذي كان محل شك وخلاف بين الشيعة أنفسهم.[3]
2 - فتح باب الاجتهاد
ثم حدث تطور هام آخر على طريق الإصلاح عند الشيعة الاثني عشرية، هو فتح باب الاجتهاد، الذي كان مغلقا ومحرما في الفكر الإمامي الذي كان يحصر العمليات التشريعية في المسائل الحادثة في "الأئمة المعصومين" فقط، منذ عهد الباقر والصادق اللذين شنا حملة شعواء على أهل الرأي والقياس والاجتهاد. ونشأت الحاجة إلى الاجتهاد عند "الاثني عشرية" بعد مرور مدة طويلة على انقطاع اتصالهم بـ :"مصدر العلم الإلهي" أي "الأئمة" وحدوث مسائل جديدة تستوجب الإجابة عليها، مما اضطر الشيعة لفتح باب الاجتهاد والقول بجواز القياس. وكان أول من قال بذلك هو الحسن بن عقيل العماني، المعاصر للكليني.[4] ومحمد بن أحمد بن الجنيد الإسكافي في أواسط القرن الرابع الهجري.[5] ثم جاء الشيخ المفيد مع تلميذيه الشريف المرتضى والشيخ الطوسي في بداية القرن الخامس الهجري ليمارسوا (الاجتهاد) عملياً ويؤسسوا بذلك "المدرسة الأصولية" التي شقت طريقها في الحياة منذ ذلك الحين.[6]
ولم يحدث الأمر بسهولة وسلام حيث لقي "المجتهدون" معارضة واسعة من "الأخباريين" الذين أصروا على الاكتفاء بأحاديث "الأئمة" ورفض "الاجتهاد" الذي اعتبروه تمردا على منهج الإمامية وأهل البيت.[7]
3 - رفض تحريف القرآن
وكانت أولى ثمرة لفتح باب الاجتهاد هي مراجعة الأحاديث الواردة في التراث "الإمامي" التي تتحدث عن تحريف القرآن، والتي تتركز بصورة رئيسية حول موضوع "الإمامة الإلهية" وتدعي حذف أسماء "الأئمة" من القرآن وكذلك حذف أسماء أعدائهم، وهي أحاديث ذكرها محمد بن يعقوب الكليني في "الكافي" ومحمد بن مسعود العياشي في تفسيره وعلي بن إبراهيم القمي في تفسيره، ومحمد بن الحسن الصفار في "بصائر الدرجات". وسعد بن عبد الله الأشعري القمي في كتاب "ناسخ القرآن ومنسوخه" وفرات بن إبراهيم الكوفي في تفسيره ، وآخرون .
وكانت روايات التحريف قد انتشرت في القرن الثاني الهجري لدى "الإمامية" الذين نسبوها الى الإمامين الباقر والصادق، في محاولة منهم لإثبات نظرية "الإمامة الإلهية" بآيات صريحة من القرآن، بعد أن رفعوا من أمر النظرية إلى مستوى العقيدة الدينية واعتبروها ركنا مهما من أركان الإسلام. ومع أنهم قد استخدموا عمليات التأويل لكثير من الآيات القرآنية لإثبات مطلبهم، إلا أنهم شعروا بالعجز عن تحقيق غرضهم فلجأوا الى استحداث آيات جديدة أو التلاعب بآيات أخرى وإضافة كلمات مثل "علي" أو "آل محمد" إليها من أجل الاستدلال بها على نظريتهم. ولما لم يكن المسلمون ولا الشيعة يعرفون تلك الآيات بتلك الصورة، كان الإماميون يدعون على لسان الأئمة من أهل البيت (الباقر والصادق) بأنها "والله نزلت هكذا".[8] وكان الإمامية (أو الغلاة منهم) يدعون أيضا بان القرآن الكامل الصحيح السليم من التحريف موجود عند الأئمة من أهل البيت، وذلك في محاولة لجعل "الإمام" مهيمنا على القرآن ومالكا لتفسيره وتأويله، أو محتكرا له.
وقد ورث "الاثنا عشرية" تراث "الغلاة من الإمامية" فصدقوا به في القرن الرابع الهجري، ولكن بعضهم استعظم القول بتحريف القرآن، فحاول أن يفسر ذلك بالتأويل، وأنكر بعضهم القول بالتحريف جملة وتفصيلا. ووجد بعضهم تلازما قويا بين نظرية الإمامة والقول بالتحريف، بحيث خشي من التشكيك بروايات التحريف لأنه كان يقوده الى التشكيك بنظرية الإمامة.[9] ولكنهم تمسكوا ببعض روايات أئمة أهل البيت التي تدعو الشيعة الى عرض الأحاديث على القرآن، وضرب ما يعارضه بعرض الجدار.
وكان أول من تحرر من روايات التحريف الشيخ محمد بن علي بن بابويه الصدوق (-381 هـ)، الذي عدَّ القول بعدم التحريف من معتقدات الامامية. وقال في رسالته الاعتقادية:"اعتقادنا في القرآن: أن القرآن الذي أنزل الله على نبيه هو ما بين الدفتين، وهو ما في أيدي الناس، ليس بأكثر من ذلك، ومبلغ سوره عند الناس مائة وأربع عشرة سورة، وعندنا( الضحى) و(ألم نشرح ) سورة واحدة، و(لإيلاف) و(ألم تر كيف) سورة واحدة، ومن نسب إلينا أنا نقول: إنه أكثر من ذلك فهو كاذب".
ثم جاء بعده الشريف المرتضى علم الهدى (355هـ - 436هـ ) فقال:"إن العلم بصحَّة القرآن كالعلم بالبلدان والحوادث الكبار، والوقائع العظام المشهورة، وأشعار العرب المسطورة، فإن العناية اشتدَّت، والدواعي توفَّرت على نقله، وبلغت حدًّا لم تبلغ إليه فيما ذكرناه؛ لأن القرآن معجزة النبوة، ومأخذ العلوم الشرعية والأحكام الدينية، وعلماء المسلمين قد بلغوا في حفظه وعنايته الغاية، حتى عرفوا كلَّ شيء فيه، من إعرابه وقراءته وحروفه وآياته، فكيف يجوز أن يكون مغيَّرًا أو منقوصا مع العناية الصادقة والضبط الشديد؟".
ثم جاء تلميذه وزميله الشيخ الطوسي (385 هـ - 408 هـ) فقال في كتاب (التبيان في تفسير القرآن):" وأمّا الكلام في زيادته ونقصانه ، فممّا لا يليق به أيضاً ، لأنّ الزيادة فيه مجمع على بطلانها ، والنقصان منه ، فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه ، وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا".
وجاء من بعدهم أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي ( 460 هـ - 548 هـ ) صاحب "مجمع البيان" الذي نفى الزيادة والنقصان في القرآن، وقال:" ذكر السيد الأجل المرتضى، علم الهدى ذو المجد، أبو القاسم علي بن الحسين الموسوي: أن القرآن كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم مجموعا مؤلَّفا على ما هو الآن، واستدلَّ على ذلك بأن القرآن كان يدرس ويحفظ جميعه في ذلك الزمان حتى إن جماعة من الصحابة، كعبد الله بن مسعود وأبي بن كعب وغيرهما ختموا القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم عدة ختمات، وكلُّ ذلك بأدنى تأمُّل يدلُّ على أنه كان مجموعا مرتَّبا غير منشور ولا مبثوث، وذكر أن مَن خالف من الإمامية والحشوية لا يعتدُّ بخلافهم، فإن الخلاف مضاف إلى قوم من أصحاب الحديث نقلوا أخبارا ضعيفة ظنُّوا صحَّتها، لا يُرجع بمثلها عن المعلوم المقطوع على صحَّته . وأما الكلام في زيادته ونقصانه فمما لا يليق به لأن الزيادة فيه مجمع على بطلانه وأما النقصان منه فالظاهر أيضاً من مذهب المسلمين خلافه وهو الأليق بالصحيح من مذهبنا كما نصره المرتضى وهو الظاهر من الروايات ، غير أنه رويت روايات كثيرة من جهة العامة والخاصة بنقصان آي القرآن ، ونقل شيء منه من موضع إلى موضع ، لكن طريقها الآحاد التي لا توجب علماً فالأولى الإعراض عنها وترك التشاغل بها لأنه يمكن تأويلها، ولو صحت لما كان ذلك طعناً على ما هو موجود بين الدفتين فإن ذلك معلوم صحته لا يعترضه أحد من الأمة ورواياتنا متناصرة بالحث على قراءته والتمسك بما فيه ورد ما يرد من اختلاف الأخبار في الفروع إليه وعرضها عليه فما وافقه عمل عليه وما يخالفه يجتنب ولا يلتفت إليه".
وقال العلامة ابن المطهر الحلي في كتابه:"مبادئ الوصول إلى علم الأصول" :" قال الله تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ. وقال في "تفسير الصراط المستقيم": "أي: إنا لحافظون له من التحريف والتبديل والزيادة والنقصان".
وقال القاضي نور الله الشوستري في كتابه المسمَّى بمصائب النواصب :" ما نُسب إليه الشيعة الإمامية بوقوع التغير في القرآن ليس مما قال به جمهور الإمامية، إنما قال به شرذمة قليلة منهم لا اعتداد بهم فيما بينهم".
واعتبر الشيخ جعفر كاشف الغطاء القول بعدم التحريف مجمعا عليه بين الشيعة الاثني عشرية.[10] ونسب الشهشهاني في كتابه "العروة الوثقى" القول بعدم التحريف الى جمهور المجتهدين.[11] وحسبما يقول السيد أبو القاسم الخوئي:"فإن المشهور بين علماء الشيعة ومحققيهم، بل المتسالم عليه بينهم هو القول بعدم التحريف".[12]
ورغم أن الخوئي يؤكد وجود مصحف خاص لأمير المؤمنين يغاير القرآن الموجود في ترتيب السور، واشتماله على زيادات ليست في القرآن الموجود، إلا أنه يقول:"لا دلالة في ذلك على أن هذه الزيادات كانت من القرآن ، وقد أسقطت منه بالتحريف، بل الصحيح أن تلك الزيادات كانت تفسيرا بعنوان التأويل، وما يؤول إليه الكلام، أو بعنوان التنزيل من الله شرحا للمراد". ويضيف: "لا دلالة في شئ من هذه الروايات على أن تلك الزيادات هي من القرآن . وعلى ذلك يحمل ما ورد من ذكر أسماء المنافقين في مصحف أمير المؤمنين - عليه السلام - فإن ذكر أسمائهم لا بد وأن يكون بعنوان التفسير. ويدل على ذلك ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم سقوط شئ من القرآن" ويقول أخيراً : "إن وجود الزيادات في مصحف علي عليه السلام وإن كان صحيحا، إلا أن هذه الزيادات ليست من القرآن، ومما أمر رسول الله (صلى الله عليه واله وسلم) بتبليغه إلى الأمة ، فإن الالتزام بزيادة مصحفه بهذا النوع من الزيادة قول بلا دليل، مضافا إلى أنه باطل قطعا . ويدل على بطلانه جميع ما تقدم من الأدلة القاطعة على عدم التحريف في القرآن".
ثم يناقش الخوئي الشبهات التي يتشبث بها بعض الأخباريين كقولهم:" إن الروايات المتواترة عن أهل البيت - ع - قد دلت على تحريف القرآن فلا بد من القول به". ويجيبهم بـ:" أن هذه الروايات لا دلالة فيها على وقوع التحريف في القرآن بالمعنى المتنازع فيه. وتوضيح ذلك : أن كثيرا من الروايات، وإن كانت ضعيفة السند ، فإن جملة منها نقلت من كتاب أحمد بن محمد السياري، الذي اتفق علماء الرجال على فساد مذهبه، وأنه يقول بالتناسخ، ومن علي بن أحمد الكوفي الذي ذكر علماء الرجال أنه كذاب، وأنه فاسد المذهب إلا أن كثرة الروايات تورث القطع بصدور بعضها عن المعصومين عليهم السلام ولا أقل من الاطمئنان بذلك ، وفيها ما روي بطريق معتبر فلا حاجة بنا إلى التكلم في سند كل رواية بخصوصها. علينا أن نبحث عن مداليل هذه الروايات، وإيضاح أنها ليست متحدة في المفاد، وأنها على طوائف ". ثم يستعرض الخوئي مختلف الروايات المدعية للتحريف، ويقول:" أنا قد أوضحنا فيما تقدم أن بعض التنزيل كان من قبيل التفسير للقرآن وليس من القرآن نفسه، فلا بد من حمل هذه الروايات على أن ذكر أسماء الأئمة - عليهم السلام - في التنزيل من هذا القبيل ، وإذا لم يتم هذا الحمل فلا بد من طرح هذه الروايات لمخالفتها للكتاب والسنة، والأدلة المتقدمة على نفي التحريف . وقد دلت الأخبار المتواترة على وجوب عرض الروايات على الكتاب والسنة وأن ما خالف الكتاب منها يجب طرحه ، وضربه على الجدار" . ويؤكد موقفه هذا مرة أخرى فيقول:"بعد الإغضاء عما في سندها من الضعف - أنها مخالفة للكتاب والسنة ولإجماع المسلمين على عدم الزيادة في القرآن ولا حرفا واحدا حتى من القائلين بالتحريف. وقد ادعى الإجماع جماعة كثيرون على عدم الزيادة في القرآن ، وأن مجموع ما بين الدفتين كله من القرآن . وممن ادعى الإجماع الشيخ المفيد، والشيخ الطوسي، والشيخ البهائي، وغيرهم من الأعاظم قدس الله أسرارهم ...وقد صرح جماعة من الأعلام بلزوم تأويل هذه الروايات أو لزوم طرحها . وممن صرح بذلك المحقق الكلباسي حيث قال على ما حكي عنه : " إن الروايات الدالة على التحريف مخالفة لإجماع الأمة إلا من لا اعتداد به . . . وقال : إن نقصان الكتاب مما لا أصل له وإلا لاشتهر وتواتر ، نظراً إلى العادة في الحوادث العظيمة . وهذا منها بل أعظمها " .
واستعان الخوئي بمجموعة من الروايات الواردة عن أهل البيت والتي تؤكد على ضرورة طرح أية رواية تخالف القرآن الكريم، وذكر من تلك الروايات : ما رواه الشيخ الصدوق محمد بن علي بن الحسين بسنده الصحيح عن الصادق عليه السلام : " الوقوف عند الشبهه خير من الاقتحام في الهلكة، إن على كل حق حقيقة ، وعلى كل صواب نورا ، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه . . . ". وما رواه الشيخ الجليل سعيد بن هبة الله " القطب الراوندي " بسنده الصحيح إلى الصادق عليه السلام : "إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه . . . ".[13]
إن العقبة الكبرى التي حالت دون رفض بعض الشيعة لأحاديث التحريف، هي ورودها حسب زعمهم بطرق "معتبرة" أو "متواترة" أو مستفيضة" [14] وهو ما سمح لبعض الحشويين والأخباريين والمحدثين كالطبرسي صاحب "الاحتجاج" والمجلسي، ونعمة الله الجزائري، ويوسف البحراني، والنوري الطبرسي، بمواصلة ترديد مقولة تحريف القرآن رغم الإجماع الشيعي الاثني عشري عبر التاريخ على سلامته من التحريف.
وفي الحقيقة لم يكن الشيعة يستطيعون التخلص نهائيا من تلك التهمة التي ظلت تلاحقهم حتى الآن، ولا يستطيعون، إلا بمراجعة مباني الجرح والتعديل للرواة الذين ينقلون أحاديث التحريف كعلي بن إبراهيم القمي وأبيه، وأستاذه الفضل بن شاذان، وغيرهم، أو رفض تلك الدعوى حتى لو صدرت فرضا عن الأئمة أنفسهم، فإن هذا هو منهج أهل البيت الذي كانوا يعلمونه لشيعتهم ويطالبونهم بعدم التسليم لهم أو قبول كل ما ينسب اليهم، ورد ما يخالف ضروريات الدين حتى لو صدر منهم.[15] خصوصا بعد ثبوت كونهم مجرد رواة للحديث وليسوا مصدرا من مصادر الوحي والتشريع. وحاشا لأئمة أهل البيت أن يتفوهوا بهكذا أقاويل.
ورغم محاولات التشكيك التي قام بها الحشوية من الشيعة وخصومهم من السنة بالتشكيك بموقف العلماء الشيعة المؤكدين والملتزمين بسلامة القرآن، واتهامهم بالتقية ومداراة العامة، فان الواقع يشهد على رفض عامة الشيعة - عبر التاريخ - لمقولة التحريف التي كان يتبناها الغلاة في القرون الأولى، والتزامهم بالقول بسلامة القرآن من الزيادة والنقصان.
4 – جواز الثورة
وقد أدى فتح باب الاجتهاد بالشيعة إلى سلسلة أخرى من التطورات الإيجابية في مجال الفكر السياسي. ومن تلك التطورات القول بجواز الثورة على الظالمين في "عصر الغيبة" خلافا لنظرية:"الانتظار للإمام المهدي" التي كان يتمسك بها "الاثنا عشريون" سابقا والتي كانت تحرم الثورة وإقامة الدولة في "عصر الغيبة" وترفض استخدام القوة المؤدية إلى الجرح أو القتل في غياب دولة "الإمام المهدي" الشرعية الوحيدة الممكنة. وهو ما سمح للشيعة عمليا ببناء دولهم المستقلة هنا وهناك. وربما كان أول من حاول الخروج من كهف الغيبة هو السيد المرتضى علم الهدى الذي قال بجواز ممارسة القتل والجرح في سبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في عصر الغيبة بلا حاجة إلى استئذان الإمام. كما نقل عنه الطوسي في كتابه:"الاقتصاد". وقد تبعه بعد ذلك حمزة بن عبد العزيز الديلمي (سلاّر) ومحمد بن إدريس ، والمحقق الحلي، والعلامة الحلي ، ويحيى بن سعيد ، والمقدس الاردبيلي، والشيخ محمد حسن الفيض الكاشاني، وآخرون.[16]
5 – فرضية "النيابة العامة"
وقام بعض الفقهاء الشيعة باختراع فرضية "النيابة العامة للفقهاء عن الإمام المهدي" ليعطوا لأنفسهم شرعية دستورية تسمح لهم بممارسة بعض مهام "الإمام المهدي" في فترة "الغيبة الكبرى" ويؤسسوا "المرجعية الدينية" كـنمط جديد من "الحكم الديني" بعيدا عن أئمة أهل البيت الذين لا وجود لهم في الحياة الظاهرة. وهو ما سمح للفقهاء أن يأخذوا الأموال العامة (الخمس وغيره) من الناس باسم "الإمام المهدي" ويفرضوا عليهم نوعا من السلطة السياسية والروحية.
6 - ضرورة الدولة
ورغم أن التطور السياسي الشيعي لم يكن حثيثا عبر التاريخ، حيث كانت كل خطوة تستغرق قرنا أو قرونا من الزمن حتى تتبعها خطوة أخرى، إلا أن التطور كان يسير في خط تصاعدي نحو الأمام، وقد قام الفقهاء الشيعة بمحاولات جريئة للخروج من أزمة "الانتظار للإمام المهدي" التي وقع بها "الاثنا عشرية" نتيجة قولهم باشتراط العصمة والنص في الإمام، وافتراض وجود الإمام المعصوم الغائب. ومن تلك المحاولات مبادرة السيد محمد باقر السبزواري ( 1018هـ - 1090 هـ ) إلى الدعوة إلى تأسيس نظام سياسي مدني معقول، حيث قال:"لا يخلو زمان من حجة، ولكن في بعض الأوقات يغيب عن أبصار الناس لأسباب ومصالح، ولكن العالم ليس بعيدا عن ألطافه وبركاته... ونحن الآن في هذه الدورة من الغيبة إذا لا يوجد سلطان عادل وقوي يدير العالم ويحكمه ، فان الأمور تنتهي إلى الفوضى والهرج والمرج وتصبح الحياة غير قابلة للتحمل بالنسبة لكل شخص ، لذلك لا بد للناس من الخضوع تحت سيطرة ملك يحكم بالعدل ويتبع سيرة وسنة الإمام".[17]
وكذلك مبادرة الشيخ احمد بن محمد مهدي النراقي (توفي سنة 1245هـ ) إلى بحث مشكلة الإمامة والسلطة والولاية العامة وضرورتها في "عصر الغيبة" وطرح نظرية "ولاية الفقيه".
وقد رفض النراقي نظرية "الانتظار" وحتَّم استمرار الإمامة في "عصر الغيبة" وأكد الحاجة الملحة لوجود الإمام الحجة العالم المعلم الهادي والداعي إلى سبيل الله بصورة ظاهرةٍ حيويةٍ متفاعلة مع الأمة. [18] ولما كان العثور على "الإمام المعصوم المعين من قبل الله" مستحيلا، فقد تخلى النراقي عن اشتراط العصمة والنص والسلالة العلوية في الإمام، وهي أهم أركان نظرية الإمامة الإلهية، واعتمد على كل أدلة ضرورة الإمامة التي كان يستخدمها المتكلمون الاماميون الأوائل ومن ضمنها حديث الفضل بن شاذان عن الإمام الرضا، الذي يتحدث عن ضرورة الإمامة والعصمة، فأخذ النراقي الشطر الأول من الحديث وألغى (العصمة) واكتفى بشرط الفقاهة والعدالة.
واعتمد النراقي كثيرا على الأدلة العقلية والإطلالات العامة التي تحتم إقامة الدولة بصورة مستقلة، وليس بالضرورة : بالنيابة العامة عن الإمام المهدي. كما افترض بعض فقهاء الشيعة.
ومن هنا يمكن اعتبار نظرية النراقي حول "ولاية الفقيه" تطورا جذريا في الفكر الشيعي السياسي نحو التحرر من التشيع "الديني" أو نظرية "الإمامة الإلهية" أكثر من التحرر من موقف "الانتظار".. ولئن كانت نظرية: "ولاية الفقيه" قد تعرضت منذ ذلك الحين إلى مناقشات حامية من قبل عدد من العلماء والمحققين، فإنها نجحت في طرح موضوع "الإمامة" على بساط البحث، وجاء العلماء من بعد ذلك ليبحثوا المسألة في ضوء الحاجة الماسة والمستمرة إلى الإمامة والقيادة العامة في "عصر غيبة الإمام الذي لا يقوم بمهام الإمامة". كما فعل الشيخ رضا الهمداني (- 1310هـ) الذي أسمى نظرية ولاية الفقيه بـ : "القائمقامية" وذهب إلى " ثبوت منصب الرياسة والولاية للفقيه، وكون الفقيه في زمان الغيبة بمنزلة الولاة المنصوبين من قبل السلاطين على رعاياهم في الرجوع إليه، وإطاعته فيما شأنه الرجوع فيه إلى الرئيس".[19] وكما فعل الشيخ محمد حسين النائيني في نظريته في "المشروطية" على أساس استحالة التفاف الأمة حول الإمام المهدي المنتظر الغائب وعدم وجود الأئمة المعصومين، وحاجة الأمة إلى قيادة مشروطة بمجلس (برلمان) منتخب منها.
أما الإمام الخميني فقد مهد لنظرية: "ولاية الفقيه" بالحديث عن ضرورة الإمامة في عصر الغيبة، كما فعل النراقي، وقال: "إن ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر (ع)". وأضاف: "أما في زمان الغيبة فالولاية والحكومة، وان لم تجعل لشخص خاص، لكن يجب بحسب العقل والنقل أن تبقيا بنحوٍ آخر، لما تقدم من عدم إمكان إهمال ذلك ، لأنها مما يحتاج إليه المجتمع الإسلامي... والعلة متحققة في زمن الغيبة، ومطلوبية النظام وحفظ الإسلام معلومة لا ينبغي لذي مسكة (عقل) إنكارها".[20]
وبالرغم من الملاحظات الكثيرة والمهمة على نظرية "ولاية الفقيه" فإنها تشكل ثورة جذرية على نظرية الإمامة الإلهية، وذلك لأنها لا تشترط العصمة ولا النص ولا السلالة العلوية الحسينية في الإمام، وتكتفي بالفقه والعدالة، وكذلك تشكل ثورة على نظرية "الانتظار للإمام المهدي" وان كانت تتمسك بدعوى النيابة العامة عنه (كما في الفقرة الخامسة من الدستور الإيراني)، وإن تلك الثورة هي التي أدت إلى نهضة الشيعة في العصر الحديث ، وقيامهم بتأسيس (الجمهورية الإسلامية ) في إيران .
7 - الديموقراطية الإسلامية
وبينما كان الفقهاء الشيعة المتأخرون، يعززون مبدأ ضرورة إقامة الدولة في "عصر الغيبة" وجدوا أنفسهم في صراع مع الملوك المستبدين الذين يمتلكون صلاحيات مطلقة بلا حدود، فانتقلوا إلى محطة جديدة في تطورهم الفكري، وبدءوا يدعون إلى "الديموقراطية الإسلامية" وانخرط بعض العلماء في إيران والعراق (كالشيخ الآخوند كاظم الخراساني) في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، في حركة متواصلة من أجل تطوير النظام السياسي الإيراني والعثماني وإصلاحهما، وتحديد صلاحيات الملوك المطلقة بمجلس شورى منتخب من الشعب، وطالبوا أن يحكم الملك حكما دستوريا (مشروطا) بالبرلمان، ونجحوا في إقامة أول مجلس برلماني دستوري في إيران سنة 1906م .
وذهب بعض العلماء كالسيد جمال الدين الأصفهاني ، إلى الدعوة لاستبدال النظام الملكي بالنظام الجمهوري، حيث أعلن خلال الثورة ضد الملك مظفر الدين القاجاري سنة 1905م: إن نظام الحكم الأقرب للإسلام هو النظام الجمهوري.[21]
وقام أحد أولئك الفقهاء وهو الشيخ محمد حسين النائيني ( 1276 هـ - 1355 هـ ) بتطوير نظرية السلطة والدولة في الفقه الشيعي، ليُشرك العلماء ونواب الشعب في إدارة البلاد. فألف كتاب " تنبيه الأمة وتنزيه الملة" الذي أكد فيه على أن أصل الحكومة الإسلامية يقوم على الشورى، وأن السلطة حق من حقوق عامة الناس . وأشار إلى ضرورة تبني النظام الديموقراطي بسبب عدم وجود الأئمة المعصومين، وصعوبة التفاف الأمة حول الإمام المهدي المنتظر الغائب .
وانطلق النائيني من مبدأ التوحيد والعدل ليصل إلى ضرورة العدالة في الحكم، فقال:" إن المالكية والقاهرية والفاعلية لما يشاء، والسؤال وعدم المسئولية، من صفات الله تعالى، فلماذا يستولي عليها السلاطين ويتصفوا بها؟" وانتهى إلى القول:" لماذا لا نحدد السلطان والسلطة بالضرورة القصوى لخدمة المجتمع وتنفيذ الشريعة؟ لماذا يكون الحاكم حاكما مطلقا ومالكا لرقاب الناس وظالما وقهارا وآسرا ( يفعل ما يشاء، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون)؟.. ولماذا لا نقيد سلطة الحاكم ونشرطها بحدود؟" . ثم قدم النائيني مفهومين متباينين للسلطة يقوم الأول منهما بجميع درجاته على القوة والتعسف والقهر والتسخير والملك للأموال والناس وعدم المسئولية والاستعباد والألوهية. ويقوم الثاني على الولاية من أجل الخدمة، وكالةً عن الناس وباسمهم، ويتسم بالأمانة والعدل والمسئولية، ويقوم على الحق والحرية والقانون وحاكمية الله سبحانه وتعالى .
وقال في الفصل الأول من كتابه :" إن مفهوم السلطة في الإسلام وسائر الشرائع والأديان وعند العقلاء والحكماء على الوجه الثاني، وإن تحوله إلى الوجه الأول (التعسفي) من بدع الظالمين والطغاة". ونظر النائيني إلى الواقع فقال:" إن الحاكم العادل المثالي لا يوجد وهو كالعنقاء وأعزّ من الكبريت الأحمر، وكذلك الأئمة المعصومين غير موجودين.. فالحكام البشر العاديون لا بد من تحديدهم ، وإذا كانت العصمة أو التقوى تحدد الحاكم وتمنعه من الطغيان والتجاوز والاعتداء فإننا يمكن ان نصل إلى هذه النتيجة بالقوانين المسددة التي تحدد الصلاحيات للحاكم ، وذلك عن طريق:
1 - الدستور ، الذي يحدد الحقوق والواجبات للحاكم والمحكومين، وهو بمنزلة (الرسالة العملية) للدولة والمجتمع.
2 - ترسيخ مبدأ المراقبة والمحاسبة والمسئولية عبر مجلس شورى من العقلاء والخبراء والقانونيين والسياسيين ، وهو الذي يمنع الولاية من التحول إلى الملك والمالكية ، وهو مسئول امام الشعب.
وإن حفظ شرف واستقلال أي مجتمع يعتمد على ممارسة الأمة لحاكميتها في حفظ النظام الداخلي والتربية العامة وإيصال كل حق إلى صاحبه ورعاية المصالح العامة والدفاع ضد تدخل الأجانب". وقال:" حيث نعجز عن الالتفاف حول الإمام المعصوم (المهدي المنتظر الغائب) وحيث افتقد (نواب الإمام العامون) مقامهم ، ولا نقدر من إعادته إليهم ، فيجب علينا أن نعيد صورة الحكم من (المطلقة) التي هي غصب في غصب، إلى (المشروطة) حيث يتحدد الظلم بالقدر الممكن ".
وتطور الفكر السياسي الشيعي في منتصف القرن العشرين إلى مرحلة جديدة بدأ يؤمن فيها بعض فقهاء الشيعة بضرورة تأسيس الدولة الإسلامية، وعدم الاكتفاء بمحاسبة ومراقبة الحكام والحد من صلاحياتهم من خلال الدستور، وتمثل ذلك التطور في فكر السيد محمد باقر الصدر، مؤسس حزب الدعوة الإسلامية، والسيد محمد مهدي الشيرازي مؤسس منظمة العمل الإسلامي، وبعض الفقهاء الآخرين الذين بدءوا يدعون إلى تأسيس الدولة الإسلامية.
ثم جاء الإمام الخميني في نهاية عقد الستينات ليدعو بصراحة إلى الثورة على فكر "الانتظار للإمام المهدي" الذي كان يهيمن على الفكر السياسي الشيعي حتى وقت قريب، وقال في محاضراته التي ألقاها في النجف سنة 1969 تحت عنوان "الحكومة الإسلامية" :"بديهي .. إن ضرورة تنفيذ الأحكام لم تكن خاصة بعصر النبي (ص) بل الضرورة مستمرة.. واعتقاد: ان الإسلام قد جاء لفترة محدودة أو لمكان محدود يخالف ضروريات العقائد الإسلامية ، وبما ان تنفيذ الأحكام بعد الرسول (ص) والى الأبد من ضروريات الحياة ، لذا كان وجود حكومة فيها مزايا السلطة المنفذة المدبرة ضروريا ، إذ لولا ذلك لساد الهرج والمرج... فقد ثبت بضرورة الشرع والعقل: ان ما كان ضروريا أيام الرسول (ص) وفي عهد الإمام أمير المؤمنين (ع) من وجود الحكومة لا يزال ضروريا إلى يومنا هذا. ولتوضيح ذلك أتوجه إليكم بالسؤال التالي: قد مر على الغيبة الكبرى لإمامنا المهدي اكثر من ألف عام ، وقد تمر عليه ألوف السنين قبل ان تقتضي المصلحة قدوم الإمام المنتظر، وفي طول هذه المدة المديدة هل تبقى أحكام الإسلام معطلة يعمل الناس خلالها ما يشاءون؟.. ألا يلزم من ذلك الهرج والمرج؟ وهل حدد الله عمر الشريعة بمائتي عام ؟ هل ينبغي ان يخسر الإسلام من بعد الغيبة الصغرى كل شيء ؟". وأضاف:"ان الذهاب إلى هذا الرأي أسوء في نظري من الاعتقاد بان الإسلام منسوخ، فلا يستطيع أحد يؤمن بالله واليوم الآخر ان يقول: انه لا يجب الدفاع عن ثغور الإسلام والوطن ، أو انه يجوز الامتناع عن دفع الزكاة والخمس وغيرهما ، أو يقول بتعطيل القانون الجزائي في الإسلام وتجميد الأخذ بالقصاص والديات، إذن فان كل من يتظاهر بالرأي القائل بعدم ضرورة تشكيل الحكومة الإسلامية فهو ينكر ضرورة تنفيذ الإسلام ، ويدعو إلى تعطيل أحكامه وتجميدها ، وهو بالتالي ينكر شمول وخلود الدين الإسلامي الحنيف". وخاطب الإمام الخميني الملتزمين بنظرية "الانتظار" قائلا :" لا تقولوا ندع إقامة الحدود والدفاع عن الثغور وجمع حقوق الفقراء حتى ظهور الحجة (الإمام المهدي) فهلا تركتم الصلاة بانتظار الحجة؟!". واسقط بالأدلة العقلية الأحاديث التي كانت تحرم العمل السياسي في ظل "الغيبة" ، ولم يعبأ بها ، ثم استدل على ضرورة الإمامة في عصر الغيبة، وقال :" ان ما هو دليل الإمامة بعينه دليل على لزوم الحكومة بعد غيبة ولي الأمر(ع) ".[22]
وبعد إثبات الإمام الخميني للحاجة المستمرة إلى الإمامة في " عصر الغيبة" وعدم جواز تجميدها انتظارا للإمام المهدي، عقلا ونقلا، توصل إلى ضرورة إقامة الدولة بقيادة من تتوفر فيه خصائص الإمامة من العلم بالقانون والعدالة.
وقام الفكر السياسي الشيعي المعاصر على أساس الشورى، وتقبل النظام الديموقراطي الحديث. وهو ما شكل تحولا جذريا، وتخلياً عملياً عن نظرية "الإمامة الإلهية" التي كانت تشكل عقدة في علاقته مع بقية الشيعة والمسلمين.
إذن فقد ولد "تشيع جديد" على أنقاض التشيع "الديني" القديم العقيم والميت، وخاصة التشيع "الاثني عشري". وهذا التشيع الجديد يقوم على أساس الاجتهاد والثورة والعدل والشورى، أو الديموقراطية، والوحدة الإسلامية، والعقل والعلم والقرآن، وهو في هذا يلتقي مع الفكر السياسي الإسلامي العام والفكر الإنساني النبيل. ويتطابق تماما مع "التشيع السياسي" أو الفكر الشيعي الأقدم المعتدل المتمثل في فكر الحركة الشيعية في أيام الإمام علي بن أبي طالب والحسن والحسين، وفي الفكر الزيدي في القرون التالية، سواء في النظرة إلى الإمامة، أو إلى العلم الشرعي. ويتجلى التطابق بين الفكرين الشيعيين القديم والجديد في اعتبار الإمامة حقا من حقوق الأمة التي لها أن تعين من تشاء، وأن العلم الديني مفتوح لجميع العلماء والمجتهدين، وليس علما غيبيا خاصا في سلالة معينة أو أشخاص معينين "محدَّثين". وعدم النظر إلى أئمة أهل البيت نظرة قدسية خاصة باعتبارهم جزءا من الدين والعقيدة الإسلامية، وإنما كأطر مؤقتة في زمانها لقيادة الحركة الشيعية السياسية في سبيل أهدافها المقدسة.[23]
[1] - كالحسن الشريعي ومحمد بن نصير النميري وأبي هاشم داود بن القاسم الجعفري واحمد بن هلال العبرتائي ومحمد بن علي بن بلال وإسحاق الأحمر وحاجز بن يزيد ومحمد بن صالح الهمداني ومحمد بن جعفر بن عون الأسدي الرازي ومحمد بن ابراهيم بن مهزيار والحسين بن منصور الحلاج وجعفر بن سهيل الصيقل ومحمد بن غالب الأصفهاني ، واحمد بن إسحاق الاشعري القمي والقاسم بن محمد بن علي بن ابراهيم الهمداني ومحمد بن صالح القمي والقاسم بن العلاء وابنه الحسن ومحمد بن علي الشلمغاني ابن أبى العزاقر ، وأبو دلف الكاتب.
[2] - ولكن هذا لم يمنع عددا من العلماء والسياسيين في المستقبل من ادعاء اللقاء بالإمام (المهدي الغائب) وإقامة علاقة خاصة به، كما يروى عن الشيخ محمد بن محمد بن النعمان المفيد (- 413 هـ) أنه تلقى رسائل خاصة عديدة من الإمام المهدي. كما ذكر الطبرسي في "الاحتجاج" وابن شهر آشوب في "المناقب" أن المفيد أخرج نسخا من رسائل، قال إن الإمام المهدي قد بعثها إلي بواسطة رجل اعرابي ، يخاطب فيها المفيد بالأخ السديد والمولى الرشيد والمخلص الناصر وملهم الحق والعبد الصالح الناصر للحق والداعي إلي بكلمة الصدق ، وقد رفض المفيد ان يعرض الرسائل ، التي أوصلها الأعرابي إلي ، على أحد من أصحابه، وقال ان ذلك بأمر المهدي ، ولم يبرز إلى الناس سوى رسائل بخط يده . (راجع: النوري الطبرسي، خاتمة المستدرك، ج 3 ص 518، والجزائري، الأنوار النعمانية ج 2 ص 21، وابن بطريق الحلي، رسالة نهج العلوم، وقصص العلماء للتنكابني، ص 399) وكان أبرز من ادعى اللقاء بالإمام "المهدي" في القرن العاشر الهجري هو الشاه إسماعيل الصفوي (مؤسس الدولة الصفوية) الذي ادعى أنه التقى الإمام في كهف وأمره بالقيام والخروج وتأسيس الدولة الصفوية في إيران، مما أكسبه صفة شرعية دينية في ذلك الزمان، وحلَّ عقدة "الانتظار" التي تحرم القيام بأية ثورة أو تشكيل أية دولة.
[3] - ومن الجدير بالذكر أن الإسماعيليين قالوا بالنيابة الخاصة أيضا، بعد سقوط الدولة الفاطمية في أواسط القرن السادس الهجري، عندما تصدى بعض مشايخهم إلى ادعاء الوكالة والنيابة الخاصة عن الإمام الإسماعيلي المختفي، ولا يزالون ينقلون الوكالة من واحد إلى آخر، باسم الأئمة الفاطميين الذين يعيشون في الستر.
[4] - الذي يصفه الشيخ عباس القمي في :(الكنى والألقاب) بأنه :" أول من هذب الفقه ، واستعمل النظر وفتق البحث عن الأصول والفروع في ابتداء الغيبة الكبرى" و "كان يرى القول بالقياس ويقول باجتهاد الرأي" كما يقول النجاشي في رجاله ، و "أول من أبدع أساس الاجتهاد في أحكام الشريعة" كما يقول الخونساري في: (روضات الجنات) .
[5] - الذي يصفه الخونساري في :(روضات الجنات) بأنه "قد عمل صريحا بالقياسات الحنفية واعتمد على الاستنتاجات الظنية" . وهو من مشايخ المفيد.
[6] - وكان الشيخ المفيد محمد بن النعمان (توفي سنة 413 هـ ) قد رفض في البداية الاجتهاد ، وردّ على أستاذه ابن الجنيد في رسالة له ، وأنكر في (المسائل الصاغانية) على العماني وابن جنيد اشتغالهم عن حمل الآثار بالرأي والاستحسان ، وهجرانهم مَن أمَر الله تعالى بصلته وأخذ معالم الدين عنه وعن عترة نبيه ، فان المفيد قد مارس الاجتهاد في عملياته الفقهية ، مما دفع "الأخباريين" إلى اعتباره من رواد مدرسة الاجتهاد . ثم جاء تلميذه السيد المرتضى علم الهدى (توفي سنة 440 هـ ) ليفتتح القول بجواز الاجتهاد رسميا ، ثم جاء زميله وتلميذه الشيخ محمد بن الحسن الطوسي (توفي سنة 460 هـ ) فمارس الاجتهاد على أوسع أبوابه وكتب (المبسوط في فقه الامامية) ، ثم تلتهما المدرسة الأصولية الحلية ومدرسة جبل عامل وكربلاء والنجف وقم الأصولية المستمرة حتى اليوم .
[7] - وقد نشطت المدرسة الإخبارية مجددا في القرن الحادي عشر الهجري في إيران والعراق بقيادة الميرزا محمد أمين الاسترابادي ( توفي سنة 1036) الذي شنّ هجوما عنيفا على المدرسة الاجتهادية (الأصولية) في كتابه :(الفوائد المدنية) . واتهم المدرسة الأصولية بالتأثر بالفكر السني والانحراف عن خط أهل البيت والتقليد لهم . ولكن الوحيد البهبهاني زعيم الحوزة العلمية في كربلاء في نهاية القرن الثاني عشر ، تصدى للحركة الأخبارية بقوة ، مما ساعد على تراجعها وانزوائها في بعض الدوائر العلمية الضيقة ، ولا تزال موجودة إلى اليوم في صورة الخط الأخباري الذي يرفض عمليات الاجتهاد والمجتهدين خارج إطار النصوص .
[8] - يروي الكليني عن جابر عن أبي جعفر قال : قلت له : لم سمي علي بن أبي طالب أمير المؤمنين ؟ قال : الله سماه ، وهكذا أنزل في كتابه " وإذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم وأشهدهم على أنفسهم ألست بربكم ( وأن محمدا رسولي وأن عليا أمير المؤمنين ) . الكافي، الأصول ، كتاب الحجة : جـ 1 ص 479 .
وروى أيضا عن جابر قال : نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية على محمد هكذا " وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا (في علي) فأتوا بسورة من مثله. المصدر ، باب فيه نكت ونتف من التنزيل ، ج 1 ص 484
وروى عن أبي بصير عن أبي عبد الله في قوله تعالى " سأل سائل بعذاب واقع للكافرين ( بولاية علي ) ليس له دافع ، ثم قال : هكذا والله نزل بها جبرئيل عليه السلام على محمد (ص). المصدر، ج 1 ص 490
وروى عن أبي حمزة عن أبي جعفر قال : نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية هكذا " فأبى أكثر الناس (بولاية علي) إلا كفورا ، قال : ونزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية هكذا " وقل الحق من ربكم (في ولاية علي) فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين (آل محمد) نارا. المصدر ،ج 1 ص 493
وعن جابر عن أبي جعفر قال هكذا نزلت هذه الآية "ولو أنهم فعلوا ما يوعظون به (في علي) لكان خيرا لهم. المصدر ،ج 1 ص 492
وعن منخل عن أبي عبد الله قال : نزل جبرئيل عليه السلام على محمد (ص) بهذه الآية هكذا : يا أيها الذين أوتوا الكتاب آمنوا بما نزلنا (في علي) نورا مبينا. المصدر ،ج 1 ص 485
وعن جابر عن أبي جعفر قال : نزل جبرئيل عليه السلام بهذه الآية على محمد (ص) هكذا "بئسما اشتروا به أنفسهم أن يكفروا بما أنزل الله (في علي) بغيا. المصدر ، ج 1 ص 484
[9] - قال المجلسي:"كثير من الأخبار الصحيحة صريحة في نقص القرآن وتغييره، وعندي أن الأخبار في هذا الباب متواترة معنى ، وطرح جميعها يوجب رفع الاعتماد عن الأخبار رأسا ، بل ظني أن الأخبار في هذا الباب لايقصر عن أخبار الامامة فكيف يثبتونها بالخبر ؟" مرآة العقول في شرح أخبار آل الرسول، الجزء الثاني عشر، ص 525 وقال المحدث يوسف البحراني : " لايخفى ما في هذه الأخبار من الدلاله الصريحه والمقالة الفصيحة على ما أخترناه ووضوح ما قلناه ولو تطرق الطعن إلى هذه الأخبار على كثرتها وانتشارها لأمكن الطعن إلى أخبار الشريعه كلها كما لايخفى إذ الأصول واحدة وكذا الطرق والرواة والمشايخ والنقله". الدرر النجفيه ، مؤسسة آل البيت لاحياء التراث ص 298
[14] - قال الشيخ المفيد : " إن الأخبار قد جاءت مستفيضة عن أئمة الهدى من آل محمد باختلاف القرآن وما أحدثه بعض الظالمين فيه من الحذف والنقصان ". أوائل المقالات، ص 91
[15] - لقد قال الإمام الصادق تعقيبا على إحدى مقولات الغلاة:" والله لو ابتلوا بنا وأمرناهم بذلك لكان الواجب أن لا يقبلوه ، فكيف وهم يروني خائفا وجلا أستعدي الله عليهم وأتبرأ إلى الله منهم أشهدكم أني امرؤ ولدني رسول الله (ص) وما معي براءة من الله، إن أطعته رحمني وإن عصيته عذبني عذابا شديدا أو أشد عذابه". الخوئي، معجم رجال الحديث ، ترجمة المغيرة بن سعيد، والكشي في رجاله.
[16] - سلار، المراسم ، ص 261 ابن إدريس، السرائر، ص 160 والمحقق الحلي في (المختصر النافع)، ص 115 والعلامة الحلي في (تحرير الأحكام) ص 157 ويحيى بن سعيد في (الجامع للشرائع) ص 243 والمقدس الاردبيلي في (مجمع الفائدة والبرهان) ص 543 والسبزواري في (كفاية الأحكام) ص 82 والكاشاني في (مفاتيح الشريعة) ج 2 ص 57
[20]- الخميني، كتاب البيع، ص 461 و 462 و466
[23] - كما يقول الإمام علي بن أبي طالب في خطاب له في الكوفة يدعو فيه شيعته إلى نقده ومحاسبته وأمره بالمعروف ونهيه عن المنكر، ويقول فيه:" إني في نفسي لست بفوق أن أخطيء فلا تكفوا عن مقالة بحق أو مشورة بعدل".