الاثنين، 10 سبتمبر 2012

الفصل الحادي عشر: وصول "التشيع الديني" إلى طريق مسدود

نشر في :
م 11

الفصل الحادي عشر: وصول "التشيع الديني" إلى طريق مسدود  

المبحث الأول: إمامة عبد الله الأفطح
   في ظاهرة تدل على "التشيع السياسي" أكثر مما تدل على "التشيع الديني" ذهب القسم الأكبر من شيعة الإمام جعفر الصادق، بعد وفاته، إلى اتباع ابنه الأكبر "عبد الله الأفطح" كإمام جديد، وقد جلس هذا مجلس أبيه وادعى الوصية له، وكاد الشيعة "الجعفرية" يجمعون عليه.[1] (ما عدا "الإسماعيلية" [2] الذين تمسكوا بحياة إسماعيل أو انتقلوا للقول بإمامة ابنه محمد، و"الناووسية" الذين أنكروا وفاة الصادق، وقالوا بمهدويته وغيبته[3]). وذلك حسب العلامات التي كان قد همس بها الإمام الصادق لبعض شيعته، حول معرفة الإمام الجديد كالكبر والقرب والوصية الظاهرة. حيث يؤكد الصفار والكليني والمفيد والكشي: على ذهاب أقطاب "الإمامية" كعبد الله بن بكير وعمار الساباطي وهشام بن سالم الجواليقي ومحمد بن النعمان الأحول، في البداية إلى عبدالله الأفطح "الذي أجمع الناس عليه أنه صاحب الأمر بعد أبيه" وذلك لرواية الناس عن أبي عبدالله:" أن الأمر في الكبير ما لم تكن به عاهة"، وإصرار عمار الساباطي وهو من أصحاب الإمامين الباقر والصادق على القول بإمامته حتى النهاية.[4] وحسبما يقول النوبختي فقد مال إلى عبد الله الأفطح جل مشايخ الشيعة وفقهائها، ولم يشكُّوا في أن الإمامة في عبد الله بن جعفر وفي ولده من بعده.[5] وروى بعضهم عن الإمام الصادق أنه طلب من ابنه موسى أن يسلم الأمر لأخيه عبدالله ولا ينازعه بكلمة.[6] وهكذا احتل عبدالله الأفطح مقام الإمامة بالوصية والكبر والجلوس مجلس أبيه، بالرغم من عدم وجود نص واضح وصريح عليه من أبيه بالإمامة.[7]
   ولكن الأفطح توفي عقب أبيه بسبعين يوما، دون أن يخلف ولدا تستمر فيه الإمامة، مما ولد صدمة جديدة في صفوف "الإمامية" الذين كانوا يؤمنون بقانون التوارث العمودي. فقام بعضهم بشطب اسم الأفطح من قائمة الأئمة والادعاء بخطأ الذهاب إليه من البداية، وقاموا بالتشكيك بكفاءته العلمية، وقالوا إنهم امتحنوه وتراجعوا عنه في حياته. وذهب بعضهم إلى اتهامه بالفسق والانحراف، ورووا عن الصادق أنه كان يلومه ويعاتبه ويعظه ويطالبه أن يكون مثل أخيه الكاظم.[8]  وقاموا باختلاق رواية عن عيسى بن عبد الله بن عمر بن علي بن أبي طالب ، أنه سأل أبا عبد الله عن الإمام بعده، فأومأ إلى ابنه موسى.[9] وذلك في محاولة منهم لإثبات عدم شرعية الأفطح في الإمامة منذ البداية. [10]
 وانتقل هؤلاء إلى أخيه موسى بن جعفر، بينما توقف آخرون التزاما منهم بالشعار الذي كان يقول بأن الإمامة لا تكون في أخوين بعد الحسن والحسين، واضطروا إلى افتراض ولد مخفي لعبد الله الأفطح، قالوا إن اسمه "محمد بن عبد الله" وانه المهدي المنتظر، وأنه موجود في اليمن بصورة سرية وقد أخفاه أبوه بسبب التقية.
   وجمع بقية "الفطحية" بين إمامة عبد الله، وإمامة أخيه موسى بن جعفر من بعده. وبرر هؤلاء عملية الجمع بين أخوين في الإمامة، بالقول بثبوت إمامة عبد الله خلال السبعين يوما من حياته، وبعدم جواز الجمع إذا كان لدى الإمام السابق ولد، وأما إذا لم يكن لديه ولد كعبد الله فلا بأس بالانتقال إلى أخيه.[11]
  وقد ساهم الارتباك الذي حصل في خلافة الصادق، سواء  بسبب عدم كفاءة الأفطح علما وورعا، أم في وفاته بسرعة دون عقب، في التشكيك بنظرية "الإمامة الإلهية" وتعزيز منطق "التشيع السياسي" (أو التشيع العلوي الزيدي) الذي يؤكد على الطبيعة السياسية العادية للإمامة، ويرفض الطابع الديني الإلهي المدعى لها، مما أدى إلى شعور أقطاب النظرية "الإمامية" وحتى المتكلمين منهم كهشام بن سالم الجواليقي وأبي جعفر الأحول (المعروف بمؤمن الطاق، أو شيطان الطاق) بالحيرة والضلال والبكاء من شدة الأزمة، كما يقول الجواليقي، ولم يجدوا ما يعينهم على الخروج من الأزمة سوى اللجوء إلى المنطق الأسطوري والباطني والغلو في ادعاء معرفة الإمام الكاظم بالغيب ودعوتهم إلى إمامته بصورة سرية.[12]

المبحث الثاني:
اعتزال الكاظم عن الإمامة

    وفي الحقيقة ان الانتقال للقول بإمامة موسى الكاظم (128 – 183)، لم يحل الأزمة، فقد كان الكاظم شابا يبلغ من العمر عشرين عاما عند وفاة والده الصادق وأخيه عبد الله، ولم يكن  – كما قلنا آنفا -  يتمتع بنص معروف وواضح من أبيه عليه بالإمامة،  إضافة إلى أنه لم يدَّعِ الإمامة ولم يسعَ إليها، وفضل الاعتزال والهدوء.[13] بالرغم من الروايات التي ألفها بعض "الإمامية" حوله فيما بعد، وقد اعترف  هشام بن سالم الجواليقي (الذي أسس لإمامة الكاظم الدينية) بأن الأخير لم يكن يجرؤ على الدعوة إلى نفسه أمام الملأ، وبصراحة، وادعى أن الكاظم كان يقوم بذلك سراً للتقية.[14]

   وقد سبق لنا التعرف على منطق الغلاة الباطنيين الذين كانوا يغلفون مقولاتهم الخاصة المناقضة لمواقف وأقوال "الأئمة" دائما، بالتقية. ولكن سيرة الكاظم في السنوات التالية كشفت حقيقة دعوى "الإمامية" (من أمثال هشام بن سالم الجواليقي ومؤمن الطاق، وأبي بصير) حيث ظل الكاظم متمسكا بموقف الاعتزال السياسي. وحسبما يقول الشيخ محمد بن علي الصدوق (شيخ الطائفة الإمامية في القرن الرابع الهجري) فقد ظل الكاظم  منعزلا وكاتما لأمره، وإن الشيعة لم تكن تختلف إليه، وإنه كان يأمر الشيعة بطاعة السلاطين على كل حال، فان كانوا عدولا فليسألوا الله إبقاءهم، وان كانوا جائرين فليسألوا الله صلاحهم.[15]
  ومن هنا فقد انصرف عامة الشيعة في أيام موسى الكاظم وأيام أبي جعفر المنصور، إلى الإمام عيسى بن زيد بن علي، وهو متوارٍ في العراق، وبايعوه سراً بالإمامة، في عام 156هـ وجاءته بيعة الأهواز وواسط ومكة والمدينة وتهامة، واثبت دعاته فبلغوا مصر والشام. واتفق مع أصحابه على الخروج بعد وفاة المنصور، فمات عيسى مسموما بسواد الكوفة  سنة 166 في أيام الخليفة العباسي المهدي بن المنصور (158- 169هـ). فحمل الراية الإمام الحسين بن علي بن الحسن (المعروف بالمثلث) "صاحب فخ" الذي قام بثورة في المدينة سنة 169هـ في أيام الخليفة العباسي موسى الهادي (169- 170هـ) الذي أمر واليه على المدينة بالتشديد على أهل البيت والتنكيل بهم وإلزامهم بالإقامة الجبرية، والعرض عليه يومياً خشية خروج أحدهم أو قيامه بثورة. فاستولى الحسين "صاحب فخ" على المدينة، ودعا إلى كتاب الله وسنة رسول الله والى الرضا من آل محمد والعدل في الرعية والقسم بالسوية، وطلب من الكاظم المبايعة فاعتذر منه قائلا:"يا ابن عم لا تكلّفني ما كلّف ابن عمك (محمد بن عبد الله ذو النفس الزكية) عمَّك أبا عبدالله (الصادق)، فيخرج مني ما لا أريد، كما خرج من أبي عبدالله ما لم يكن يريد". فقال له الحسين: إنّما عرضت عليك أمراً فان أردته دخلت فيه. وإن كرهته لم أحملك عليه والله المستعان، ثم ودّعه.[16]
  وبعد أن قُتل الحسين "صاحب فخ" قرب مكة ، حمل الإمام يحيى بن عبدالله ابن الحسن ، راية الثورة على الخليفة العباسي هارون الرشيد، فطلب من موسى بن جعفر أن ينصره، ولما رفض كتب إليه يستنكر عليه خذلانه له ويقول له :" أما بعد ... خبَّرَني من ورد علي من أعوان الله على دينه ونشر طاعته ، بما كان من تحننك مع خذلانك وقد شاورت في الدعوة للرضا من آل محمد (ص)، وقد احتجبتها واحتجبها أبوك من قبلك، وقديما ادعيتم ما ليس لكم، وبسطتم آمالكم إلى ما لم يعطكم الله فاستهويتم وأظللتم، وأنا محذرك ما حذرك الله من نفسه" . فكتب إليه الكاظم:" من موسى بن أبي عبد الله ... إلى يحيى بن عبد الله بن الحسن أما بعد.. فإني أحذرك الله ونفسي، وأعلمك أليم عذابه، وشديد عقابه، وتكامل نقماته  وأوصيك ونفسي بتقوى الله، فإنها زين الكلام، وتثبيت النعم، أتاني كتابك، تذكر فيه أني مُدَّعٍ وأبي من قبل ، وما سمعت ذلك مني ، وستكتب شهادتهم ويسألون، ولم يدع حرص الدنيا ومطالبها لأهلها مطلبا لآخرتهم، حتى يفسد عليهم مطلب آخرتهم في دنياهم. وذكرت أني ثبطت الناس عنك لرغبتي فيما في يديك، وما منعني من مدخلك الذي أنت فيه لو كنت راغبا ضعفٌ عن سنَّة، ولا قلةُ بصيرةٍ بحجة، ولكن الله تبارك وتعالى خلق الناس أمشاجا، وغرائب، وغرائز ... وأنا متقدم إليك أحذرك معصية الخليفة، وأحثك على بره وطاعته، وأن تطلب لنفسك أمانا قبل أن تأخذك الأظفار، ويلزمك الخناق من كل مكان تتروح إلى النفس من كل مكان ولا تجده، حتى يمنَّ الله عليك بمنه وفضله، ورقة الخليفة أبقاه الله، فيؤمنك ويرحمك، ويحفظ فيك أرحام رسول الله (ص) والسلام على من اتبع الهدى " إنا قد أوحي إلينا أن العذاب على من كذب وتولى ".[17]  
  ومما يؤكد عدم تبني الكاظم لنظرية "الإمامة الإلهية" انتماء معظم أبنائه للخط الزيدي (أو التشيع السياسي العلوي)، إضافة إلى أخيه محمد بن جعفر الصادق المعروف بـ "الديباج" الذي خرج في مكة سنة 199 للهجرة ، وتلقب بأمير المؤمنين.[18]

أ - روايات  النص على الكاظم
ولكن وبالرغم من اعتزال الإمام موسى الكاظم السياسة ورفضه ادعاء الإمامة، وبالرغم من الغموض الذي كان يلف قضية الخلف بعد الإمام الصادق، ووفاة زرارة دون معرفة الإمام الجديد، وذهاب أقطاب النظرية الامامية إلى القول بإمامة عبدالله الأفطح، فان فريقا من "الامامية" التف حول الكاظم، وحاول أن يجعل منه رمزا لنظرية "الإمامة الإلهية" و"إماما" في سلسلة الأئمة "الربانيين" المنصوص عليهم، التي كان يجب أن تستمر إلى يوم القيامة. وحاول هذا الفريق أن يأتي بنصوص تثبت إشارة الإمام الصادق إلى ابنه الكاظم. وقد ذكر الكليني في "الكافي" والصفار في "بصائر الدرجات" والصدوق في ­"عيون أخبار الرضا" والمفيد في "الإرشاد" حوالي ستة عشر نصا تتراوح بين الإشارة الغامضة والتأكيد الصريح الواضح .
   فقد ادعى الفيض بن المختار: أن الصادق أشار إلى الكاظم منذ أن كان طفلا صغيرا.  وأنه قال لأبي عبد الله: مَن لنا بعدك؟  فقال: هذا صاحبكم، فتمسك به، وأشار إلى الكاظم.[19] وروى معاذ بن كثير، أنه قال لأبي عبد الله: أسألُ الله الذي رزق أباك منك هذه المنزلة أن يرزقك من عقبك قبل الممات مثلها، فقال: قد فعل الله ذلك. قال: من هو؟ فأشار إلى العبد الصالح (الكاظم) وهو راقد فقال: هذا الراقد، وهو غلام.[20]  كما قال عبد الرحمن بن الحجاج إنه سأل جعفر بن محمد: من ولي الناس بعدك؟ فقال: إن موسى قد لبس الدرع وساوى عليه، فقال عبد الرحمن: لا أحتاج بعد هذا إلى شئ.[21] وقال المفضل بن عمر إن أبا عبد الله قال له:"استوصِ به، وضع أمره عند من تثق به من أصحابك".[22]  وروي عن إسحاق بن جعفر الصادق أنه قال: كنت عند أبي يوما، فسأله علي بن عمر بن علي فقال: جعلت فداك إلى من نفزع ويفزع الناس بعدك؟ فقال: إلى صاحب الثوبين الأصفرين والغديرين - يعني الذؤابتين - وهو الطالع عليك من هذا الباب، يفتح البابين بيده جميعا، فما لبثنا أن طلعت علينا كفان آخذة بالبابين ففتحهما، ثم دخل علينا أبو إبراهيم (الكاظم).[23]  وعن صفوان الجمال: أن منصور بن حازم سأل أبا عبد الله: بأبي أنت وأمي إن الأنفس يُغدا عليها ويُراح، فإذا كان ذلك فمَن؟ فقال أبو عبد الله: إذا كان ذلك فهو صاحبكم وضرب بيده على منكب أبي الحسن الأيمن - في ما أعلم - وهو يومئذ خماسي (عمره خمس سنوات) وعبد الله بن جعفر جالس معنا.[24]  وقال أيضا:"عليكم بهذا، فهو والله صاحبكم بعدي".[25]  وعن عيسى بن عبد الله، أنه سأل أبا عبد الله، نفس السؤال، فأومأ إلى ابنه موسى.[26]  وعن فيض بن المختار: أن أبا عبد الله قال له: هو صاحبك الذي سألت عنه، فقم إليه فأقرَّ له بحقه، فقمت حتى قبلت رأسه ويده ودعوت الله عز وجل له.[27] وروى "الإمامية" عن الكاظم أنه رفض الاعتراف بإمامة أخيه الأفطح، وعندما قال له أحد أصحابه: إني أحتج عليك عند الله يوم القيامة أنك زعمت أن عبد الله لم يكن إماما، وضع يده على عنقه، ثم قال له:" نعم احتج عليَّ بذلك عند الله عز وجل فما كان فيه من إثم فهو في رقبتي".[28]
  ولكن هذه الروايات لم تكن معروفة ولا ثابتة ولا منتشرة بين الشيعة الجعفرية ولا حتى "الإمامية" من قبل، ولذلك ذهب عامة الفقهاء الشيعة إلى عبد الله الأفطح، واحتار البقية لعدم معرفتهم الإمام الجديد، وهذا ما يعزز احتمال وضع هذه الروايات من قبل الدعاة لموسى الكاظم من بعد، ومحاولة الإيحاء بوجود النص عليه من الصادق من قبل.
ب - دليل المعاجز
ولما لم تكن النصوص التي أوردها "الإمامية - الموسوية" مقنعة وكافية، فقد لجئوا إلى سلاح المعاجز وعلم الغيب ليثبتوا وجود الارتباط الخاص للإمام الكاظم بالسماء، وتحديده من بين اخوته كوريث شرعي ووحيد، وفي هذا يقول أبو بصير أنه ذهب إلى الإمام الكاظم وسأله قائلاً­: جعلت فداك بمَ يُعرف الإمام؟..قال : بخصال : أما أولاهن فانه بشيء قد تقدم من أبيه وإشارته إليه ليكون حجة، ويُسأل فيجيب وإذا سكت عنه ابتدأ، ويخبر بما في غدٍ ويكلم الناس بكل لسان. ثم قال : يا أبا محمد إن الإمام لا يخفى عليه كلام أحد من الناس ولا منطق الطير ولا كلام شيء فيه روح ، فمن لم يكن هذه الخصال فيه فليس هو بإمام .
وتأكيدا لتلك الدعوى الأسطورية المغالية روى "الموسوية" روايات كثيرة تزعم أن الكاظم كان يعلم متى يموت الرجل ويخبر أصحابه بذلك، كما كان يخبرهم بمصائرهم في المستقبل. وأنه كان يفعل "المعاجز" فيخرج من الحبس ببغداد ويحطم الأغلال ويخترق الجدران، ويذهب من بغداد إلى المدينة المنورة ويعود إليها في نفس الليلة، ويطبع خاتمه في حصاة، ويتكلم بلغات أجنبية من دون تعلم ، ويدخل النار ولا يحترق، ويقوم بإحياء بقرة ميتة. وما إلى ذلك من "المعاجز".[29]
   وانفرد أبو بصير برواية خاصة، تتحدث عن معجزة للكاظم في الدقيقة الأولى من ولادته، وهو سقوطه من بطن أمه واضعا يديه على الأرض، رافعا رأسه إلى السماء، وقول الصادق لأمه حميدة بأن ذلك أمارة الوصي من بعده.[30]
   ولكن هذه الحكايات الأسطورية كانت تواجه برفض شديد من الكاظم نفسه، الذي لم يكن يدعي علما بغيب، ولا إتيانا لمعجزة. وعندما أخبره  يحيى بن عبدالله بن الحسين : أن بعض الغلاة يدعي علمه (الكاظم) بالغيب، أنكر ذلك وقال:" سبحان الله! ضع يدك على رأسي فوالله ما بقيت في جسدي شعرة ولا في رأسي إلا قامت" .[31] وأعرب الكاظم عن استيائه من حركة التزوير التي يقوم بها بعض الغلاة  المندسين في أنصاره، فقال:" لو ميزت شيعتي لم أجدهم إلا واضعة (أي يضعون الحديث) ولو امتحنتهم لما وجدتهم إلا مرتدين ولو محصتهم لما خلص من الألف واحد !!!".[32]
  وقد استغل "الإمامية" غياب الكاظم في السجن بضع سنين لينسبوا إليه ما يشاءون حتى لو كان مخالفا بصراحة لما عرف عنه، كما فعل "علي بن سويد السائي" الذي ادعى أنه كتب إلى الكاظم رسالة وأنه أجابه برسالة ورد فيها:" لا تقل لما بلغك عنا أو نسب إلينا: "هذا باطل" . وإن كنت تعرف خلافه، فانك لا تدري لِـمَ قلناه وعلى أي وجه وصفناه، آمن بما أخبرتك ولا تفشِ ما استكتمتك".[33]

ج -  استمرار الغلو

   ولو فتشنا هويات من كان يدعي الانتماء إلى شيعة موسى الكاظم في ذلك الوقت، لعثرنا على كثير من الغلاة في صفوفهم، وخاصة "المفوضة" أو "المفضلية" (أتباع المفضل بن عمر) الذي لعنه الإمام الصادق، ولكنه التف حول الكاظم وادعى النص عليه من أبيه الصادق، كما التف "الخطابية" حول إسماعيل وأنكروا وفاته في حياة أبيه، وادعوا وجود النص عليه. وكذلك "البشرية" (أتباع محمد بن بشير) الذي لعنه الكاظم لأنه كان يقول فيه بالربوبية، ويدعي لنفسه النبوة.[34] وقد كان هذا يكذب على الكاظم في حياته، ويحاول أن يدس نفسه في شيعته، فانتبه إليه الكاظم، ولعنه وسأل الله أن يذيقه حر الحديد، وأباح دمه، حتى أشار على أحد أصحابه بقتله.[35]
    وقال الكاظم لعلي بن أبي حمزة البطائني:" لعن الله محمد بن بشير وأذاقه الله حر الحديد، إنه يكذب عليَّ.. برئ الله منه، وبرئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدعيه فيَّ ابن بشير، اللهم أرحني منه، ثم قال: يا علي ما أحد اجترأ أن يتعمد علينا الكذب إلا أذاقه الله حر الحديد، وإن بنانا كذب على علي بن الحسين عليه السلام فأذاقه الله حر الحديد، وإن المغيرة بن سعيد كذب على أبي جعفر عليه السلام فأذاقه الله حر الحديد، وإن أبا الخطاب كذب على أبي فأذاقه الله حر الحديد، وإن محمد بن بشير لعنه الله يكذب عليَّ برئت إلى الله منه، اللهم إني أبرأ إليك مما يدعيه فيَّ محمد بن بشير، اللهم أرحني منه، اللهم إني أسألك أن تخلصني من هذا الرجس النجس محمد بن بشير فقد شارك الشيطان أباه في رحم أمه".[36]
      واعتبر الإمام الكاظم القائلين بالتناسخ (كالبشرية) كفارا، ولعنهم، ثم قال:" ألا كانوا مجوسا، ألا كانوا نصارى، ألا كانوا قدرية، ألا كانوا مرجئة، ألا كانوا حرورية". وحذر شيعته منهم قائلا:" لا تقاعدوهم ولا تصادقوهم وابرءوا منهم، برئ الله منهم".[37]

  ولكن محمد بن بشير لم يأبه لموقف الكاظم منه، وظل يكذب عليه في حياته وبعد وفاته، فقد استغل مناسبة وفاة الإمام الكاظم بصورة غامضة في سجن الرشيد في بغداد سنة 183 هـ، لينخرط في صفوف "الواقفية" الذين قالوا بغيبة الإمام وهروبه من السجن، وأنه لم يمت وهو القائم المهدي. فادعى أن موسى بن جعفر استخلفه في وقت غيبته على الأمة وجعله وصيه وأعطاه خاتمه، وعلَّمه جميع ما تحتاج إليه رعيته من أمر دينهم ودنياهم، وفوض إليه جميع أمره وأقامه مقام نفسه، وأنه الإمام من بعد الكاظم. [38]


المبحث الثالث: الاختلاف حول علي بن موسى الرضا
أ – "الواقفية"  
لقد ذوت نظرية "الإمامة الإلهية" في عهد الكاظم، وكادت تنطفئ بعد وفاته سنة 183 هـ خصوصا وأن شيعته لم يعرفوا أي نص منه على أحد من ولده بالإمامة. وذهب الكثير منهم إلى اعتناق المذهب الزيدي (أو بالأحرى التشيع العلوي السياسي) الذي لا يحصر الإمامة في سلالة معينة أو أشخاص معينين، وإنما يثبتها لمن يخرج من آل محمد ويأمر بالمعروف وينهى عن المنكر. ولذلك قام جمع من أصحاب الكاظم وأبنائه في المدينة بالاجتماع عند باب أم أحمد (زوجة الكاظم) وبايعوا ابنها أحمد.[39]  
    وأما "الإمامية" الذين كانوا يؤمنون بنظرية الإمامة الإلهية أو "التشيع الديني"، فقد غلب عليهم "الوقف" أي الانتهاء عند الكاظم. وتشبثوا بأحاديث رووها تؤكد أن الكاظم هو المهدي المنتظر، ولذلك رفضوا الانتقال إلى أي شخص آخر، وقال علي بن أسباط للرضا: ان رجلا عنى أخاك ابراهيم فذكر له أن أباك في الحياة، وانك تعلم من ذلك ما يعلم؟..فقال : سبحان الله يموت رسول الله ولا يموت موسى ؟!.. قد والله مضى كما مضى رسول الله (ص).[40] واتهم من قال بعدم وفاته بالكذب، وقال:" إنهم كفار بما أنزل الله عز وجل على محمد (ص) ولو كان الله يمدُّ في أجل أحد من بني آدم لحاجة الخلق إليه، لمدَّ الله في أجل رسول الله (ص)". [41]
  وعندما حج الحسن بن قياما الصيرفي سنة 193، أي بعد عشر سنين من وفاة الكاظم، سأل الرضا عن أبيه فقال له: مضى كما مضى آباؤه . فقال: فكيف أصنع بحديث حدثني به يعقوب بن شعيب عن أبي بصير أن أبا عبدالله قال : إن جاءكم من يخبركم إن ابني هذا مات أو كفن وقبر ونفضوا أيديهم من تراب قبره فلا تصدقوا به؟..فقال الرضا : كذب أبو بصير ليس هكذا حدثه .. إنما قال: إن جاءكم عن صاحب هذا الأمر.[42]
  واحتج بعض "الواقفية" أيضا بأن الرضا لم يكن لديه ولد تستمر فيه الإمامة، ولم يكن قد رزق بولد حتى وقت متأخر، فخشوا أن تتكرر تجربة عبد الله الأفطح الذي توفي بدون عقب، مما سبب لهم مشكلة في استمرار الإمامة وانتقالها إلى أخيه موسى الكاظم.
  وقد حاول الرضا أن يستميل "الواقفية" بتسفيه انتظارهم لإمام غائب لا يمارس دور القيادة ولا يمكن التفاعل معه، فقال لهم بمنطقهم:"إن الحجة لا تقوم لله على خلقه إلا بإمام حيّ يُعرف" و "من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية.. إمام حي يعرفه. وقد قال رسول الله (ص): من مات وليس له إمام يسمع له ويطيع مات ميتة جاهلية". وقال لأحد الواقفية:"من مات وليس عليه إمام حي ظاهر مات ميتة جاهلية" فسأله الواقفي مستوضحا ومركزا على كلمة "إمام حي"؟ فأكد له مرة أخرى "إمام حي".[43]
  وقد اتهم أنصارُ علي بن موسى الرضا "الواقفيةَ" بالوقف بسبب المال، وأنهم اخترعوا حكاية هروب الكاظم من السجن والبقاء في الحياة، لكيلا يسلموا الأموال والأمانات إلى ورثته.[44]  بيد أنه لا يمكن تفسير حركة الوقف الواسعة بالعامل المادي فقط، حيث كان بعض "الواقفية" أشخاصا ثقاة عند الجميع.[45] ومنهم "أصحاب الإجماع" والرواة الثقاة، الذين يدل وقفهم على الكاظم، على غموض مسألة الخلف وعدم معرفتهم بالوصية لأحد من بعده. [46]
ب – "القطعية" والاستعانة بالمعاجز
  وكان فريق من "الموسوية" بادر إلى تبني إمامة الرضا فور وفاة الكاظم، وعلى رأسهم يونس بن عبد الرحمن القمي.[47] الذي زعم أنه قابل الرضا وقال له: قد عرفت انقطاعي إليك وإلى أبيك، وحلفته بحق الله وحق رسوله وحق أهل بيته - وسميتهم حتى انتهيت إليه - أن لا يخرج ما يخبرني به إلى الناس، وإني أرجو أن يقول أبي حي، ثم سألته عن أبيه أحي أم ميت ؟ فقال: قد والله مات، قلت: جعلت فداك، إن شيعتك - أو قلت مواليك - يروون أن فيه شبه أربعة أنبياء، قال: قد والله الذي لا إله إلا هو هلك، قال: قلت هلاك غيبة، أو هلاك موت ؟ فقال: هلاك موت والله، قلت: جعلت فداك، فلعلك مني في تقية ؟ فقال: سبحان الله، قد والله مات، قلت: فمن أين علمت موته ؟ - حيث كان هو في المدينة ومات أبوه في بغداد - قال: جاءني منه ما علمت به أنه قد مات، قلت: فأوصى إليك ؟ قال: نعم، (قلت): فما شرَك فيها أحد معك ؟ قال: لا، قلت: فعليك من إخوانك إمام ؟ فقال: لا، قلت: فأنت إمام ؟ قال: نعم.[48]
  وظل عامة "الواقفية" على موقفهم السلبي من الرضا حوالي سبعة عشر عاما، إلى أن استدعاه الخليفة العباسي المأمون إلى خراسان وأوكل إليه ولاية العهد، سنة 201  فبدأ بعضهم يميل إليه ويدعي حدوث معاجز غيبية دلت عليه، ودفعته لتغيير موقفه، كما راح بعضهم ينسج روايات على لسان الكاظم تتضمن النص عليه أو الإشارة إليه بالإمامة.[49] كما فعلوا من قبل مع أبيه.
  وقد قام  يزيد بن سليط (أحد أصحاب الكاظم) باختلاق قصة مليئة بادعاءات المعاجز وعلم الغيب، لكي يثبت إمامة الرضا، ولكنه اعترف فيها بغموض الوصية وسرية النص على الرضا، فادعى أنه لقي الإمام الكاظم في طريق مكة في موضع، وسأله عن الإمام بعده، فقال له: "أخبرك يا أبا عمارة أني خرجت من منزلي فأوصيت إلى ابني فلان (الرضا)، وأشركت معه بني في الظاهر، وأوصيته في الباطن، فأفردته وحده ولو كان الأمر إليَّ لجعلته في القاسم ابني، لحبي إياه ورأفتي عليه ولكن ذلك إلى الله عز وجل، يجعله حيث يشاء، ولقد جاء ني بخبره رسول الله (ص)، ثم أرانيه وأراني من يكون معه وكذلك لا يوصي إلى أحد منا حتى يأتي بخبره رسول الله (ص) وجدي علي (ص) ورأيت مع رسول الله (ص) خاتما وسيفا وعصا وكتابا وعمامة، فقلت: ما هذا يا رسول الله؟ فقال لي: أما العمامة فسلطان الله عز وجل، وأما السيف فعز الله تبارك وتعالى، وأما الكتاب فنور الله تبارك وتعالى، وأما العصا فقوة الله، وأما الخاتم فجامع هذه الأمور، ثم قال لي: والأمر قد خرج منك إلى غيرك، فقلت: يا رسول الله أرنيه أيهم هو؟ فقال رسول الله (ص): ما رأيت من الأئمة أحدا أجزع على فراق هذا الأمر منك ولو كانت الإمامة بالمحبة لكان إسماعيل أحب إلى أبيك منك ولكن ذلك من الله عز وجل. ثم قال أبو إبراهيم (الكاظم): ورأيت ولدي جميعا الأحياء منهم والأموات، فقال لي أمير المؤمنين: هذا سيدهم وأشار إلى ابني علي فهو مني وأنا منه والله مع المحسنين.  ثم قال أبو إبراهيم: يا يزيد إنها وديعة عندك فلا تخبر بها إلا عاقلا أو عبدا تعرفه صادقا وإن سئلت عن الشهادة فاشهد بها، وهو قول الله عز وجل: " إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها". قال: فقال أبو إبراهيم: فأقبلت على رسول الله (ص) فقلت: قد جمعتهم لي - بأبي وأمي - فأيهم هو؟ فقال: هو الذي ينظر بنور الله عز وجل ويسمع بفهمه وينطق بحكمته يصيب فلا يخطئ، ويعلم فلا يجهل، معلما حكما وعلما، هو هذا - وأخذ بيد علي ابني - ثم قال: ما أقل مقامك معه، فإذا رجعت من سفرك فأوص وأصلح أمرك وافرغ مما أردت، فإنك منتقل عنهم ومجاور غيرهم، فإذا أردت فادع عليا ... ثم اجمع له ولدك من بعدهم، فأشهد عليهم وأشهد الله عز وجل وكفى بالله شهيدا. قال يزيد ثم قال لي أبو إبراهيم: إني أؤخذ في هذه السنة والأمر هو إلى ابني علي... وليس له أن يتكلم إلا بعد موت هارون بأربع سنين". ثم قال لي:" يا يزيد وإذا مررت بهذا الموضع ولقيته وستلقاه فبشره أنه سيولد له غلام، أمين، مأمون".  قال يزيد: وكان اخوة علي يرجون أن يرثوه فعادوني اخوته من غير ذنب .[50] 
   ويقول ابن سنان : دخلت على أبي الحسن موسى من قبل أن يقدم العراق بسنة وعلي ابنه جالس بين يديه، فنظر إلي فقال: يا محمد أما إنه سيكون في هذه السنة حركة، فلا تجزع لذلك، قال: قلت: وما يكون جعلت فداك؟ فقد أقلقني ما ذكرت فقال: أصير إلى الطاغية، أما إنه لا يبدأني منه سوء ومن الذي يكون بعده، قال: قلت: وما يكون جعلت فداك؟ قال: يضل الله الظالمين ويفعل الله ما يشاء، قال: قلت: وما ذاك جعلت فداك؟ قال: من ظلم ابني هذا حقه وجحد إمامته من بعدي كان كمن ظلم علي بن أبي طالب حقه وجحده إمامته بعد رسول الله (ص) قال: قلت: والله لئن مد الله لي في العمر لأسلمن له حقه ولأقرن له بإمامته، قال: صدقت يا محمد يمد الله في عمرك وتسلم له حقه وتقر له بإمامته من يكون من بعده، قال: قلت: ومن ذاك؟ قال محمد ابنه، قال: قلت: له الرضا والتسليم.[51]  
 ومع أن يزيد بن سليط يحاول إثبات إمامة الرضا عن طريق النص عليه من أبيه، إلا انه يؤكد سريته وخصوصيته وإشراك الكاظم لجميع ولده بالوصية، وهي وصية مالية خاصة سوف نذكرها بعد قليل، مما يدل على غموض أمر النص على الرضا، وبالتالي صعوبة التعرف على الإمام الذي يقول إنه معين من قبل الله، فكيف يمكن أن يعين الله إماما لخلقه وهو مجهول لديهم ولا يعلمه إلا نفر قليل؟
   وأما الوصية التي استشهد بعض الشيعة "القطعية" بها لإثبات إمامة الرضا، فهي دليل ضعيف معاكس ضد نظرية "الإمامة الإلهية" وتأتي في سياق الوصايا العادية العرفية، ولا علاقة لها بالإمامة. وهي وصية مهمة ومفصلة من الكاظم إلى ابنه علي الرضا بإدارة أمواله وأوقافه ورعاية بنيه ونسائه، وقد جاء فيها: "... إني قد أوصيت إلى علي وبنيّ بعدُ معه إن شاء وآنس منهم رشدا وأحب أن يقرهم فذاك له وإن كرههم وأحب أن يخرجهم فذاك له ولا أمر لهم معه وأوصيت إليه بصدقاتي وأموالي وموالي وصبياني الذي خلفت وولدي... وإن أراد رجل منهم أن يزوج أخته فليس له أن يزوجها إلا بإذنه وأمره، فإنه أعرف بمناكح قومه".[52] وهذه الوصية تؤكد فقط على تفضيل الكاظم للرضا على غيره من أولاده، وليس فيها أي حديث عن الإمامة.
  ولذلك فقد ظل الرضا يعاني من عدم اعتراف اخوته وكبار تلاميذ والده به، طوال عشرين عاما، خاصة وأنه لم يولد له ابنه محمد الجواد إلا بعد حوالي أحد عشر عاما أو اثني عشر عاما من وفاة أبيه (الكاظم)، عندما كان يبلغ (الرضا) من العمر حوالي السادسة والأربعين.[53] وقد كان ذلك أمرا مهما عند الإمامية الذين يؤمنون بتسلسل الإمامة في الأعقاب وأعقاب الأعقاب، وعدم جواز انتقالها إلى أخ أو ابن أخ، أو عم أو ابن عم، ولذلك فقد كانوا يعتبرون عدم إنجاب الرضا ولدا دليلا على عدم إمامته الدينية. ويقال إن محمد ابن أبي نصر سأله: من الإمام بعدك؟ فقال له: الإمام ابني، ثم قال: هل يتجرأ أحد أن يقول ابني وليس له ولد.[54]  ويقال إن أحد الواقفة (الحسن ابن قياما الواسطي الصيرفي) دخل عليه وسأله : كيف تكون إماما وليس لك ولد؟  ولم يكن ولد له أبو جعفر، بعد ، فأجابه الرضا - شبه المغضب -: وما علمك أنه لا يكون لي ولد؟! والله لا تمضي الأيام والليالي حتى يرزقني الله ولدا ذكرا يفرق به بين الحق والباطل.[55] فقال له: أيكون إمامان؟ قال: لا، إلا وأحدهما صامت، فقال له: هو ذا أنت، ليس لك صامت ، فقال الرضا: والله ليجعلن الله مني ما يثبت به الحق وأهله، ويمحق به الباطل وأهله. فولد له بعد سنة أبو جعفر.[56]
  ويأتي الإمامية "القطعية" بهاتين الروايتين كدليل على إمامة الرضا الإلهية، لعلمه بالغيب وتأكيده على ولادة ولد ذكر له في المستقبل، ولكن نستبعد صحة الروايتين لاحتوائهما على دعوى علم الأئمة بالغيب، وهو ما لا يعلمه إلا الله، وما كان يرفضه أئمة أهل البيت بشدة. مع وجود احتمال في اختلاق الروايتين فيما بعد. والغريب أن معظم الرافضين للرضا وحتى اخوته وأعمامه، رفضوا الاعتراف بولده (محمد الجواد، الذي ولد سنة 195)  بسبب كونه داكن اللون (أسود)، واتهموا أمه (الجارية النوبية) بالزنا – والعياذ بالله - ولم يصدقوا أنه ابنه حتى جاءوا بقائف أكد لهم انتساب الجواد للرضا.[57] 
  وفي غياب النصوص الواضحة والصريحة والعامة والعلنية على إمامة الرضا الدينية، كان لا بد للامامية من الاستعانة بسلاح المعاجز وادعاء معرفة الإمام الرضا بعلم الغيب لإثبات إمامته وإضفاء صبغة "دينية" عليها، وقد قام بهذه المهمة (احمد بن محمد بن عمرو بن أبي نصر البزنطي السكوني الكوفي) الذي كان واقفيا في البداية، ورفض الإيمان بإمامة الرضا لأنه كما يقول "أجاب عن بعض المسائل الفقهية بخلاف ما جاء عن آبائه وأقربائه" لكن البزنطي عاد فقال بإمامة الرضا ، بعد ان استدعاه المأمون إليه، و قال انه شعر بعلم الإمام الرضا بالغيب ، ومعرفة ما في نفسه، واتخذ من ذلك دليلا إعجازيا على إمامة الرضا، واصبح من أقرب مقربيه وذا منزلة عظيمة لديه ، وروى كتابا عنه.[58]
  وشارك البزنطي في تلك المهمة (داود بن كثير الرقي).[59]  الذي كان واقفيا أيضا، ثم عاد فقال بإمامة الرضا. كما فعل (عبدالله بن المغيرة)  الذي انتقل من الوقف إلى القول بإمامة الرضا بناءا على دليل غيبي ومعجزة وعلم بالغيب قال إنه وجده في الإمام الرضا.[60] وكما فعل (الوشاء) الذي كان واقفيا حوالي عشرين عاما، ثم انقلب بعد ذهاب الإمام الرضا إلى خراسان، فاختلق رواية ترتكز على علم الرضا بالغيب، وأعلن على أساسها إيمانه به.[61] 
  وفي الاستدلال على إمامة الرضا، أشاع "القطعيون" (الذين قطعوا على إمامة الرضا) "معجزة غيبية" له ، وهي معرفته بوفاة أبيه الكاظم في بغداد ، وهو في المدينة، في نفس الوقت، وقبل أن يأتي البريد بالخبر بعدة أيام.[62]   
  وقام "القطعيون" بتحوير أسطورة " أم أسلم" التي سبق أن قال بها بعض "الإمامية" كدليل على إمامة زين العابدين، فاختلقوا أسطورة مشابهة تحت عنوان "حصاة حبابة الوالبية" التي زعموا أنها عاشت أكثر من مائتي عام، ورأت ثمانية من الأئمة من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب إلى علي بن موسى الرضا، وأضافوا عليها أن الإمام علي بن الحسين أعاد لها شبابها بعد أن بلغت من  العمر عتيا، وأنها التقت الإمام علي في الكوفة وسألته: يا أمير المؤمنين ما دلالة الإمامة يرحمك الله؟ فقال ائتيني بتلك الحصاة. وأشار بيده إلى حصاة فأتته بها فطبع لها فيها بخاتمه، ثم قال لها: يا حبابة! إذا ادعى مدعٍ الإمامة، فقدر أن يطبع كما رأيت فاعلمي أنه إمام مفترض الطاعة، والإمام لا يعزب عنه شئ يريده. ثم انصرفت حتى قبض أمير المؤمنين، فجاءت إلى الحسن، وهو في مجلس أمير المؤمنين، والناس يسألونه فقال: يا حبابة الوالبية، هاتي ما معك، فأعطته الحصاة فطبع فيها كما طبع أمير المؤمنين، قالت: ثم أتيت الحسين وهو في مسجد رسول الله (ص) فقرب ورحب، ثم قال لي: إن في الدلالة دليلا على ما تريدين، أ فتريدين دلالة الإمامة؟ فقلت: نعم يا سيدي، فقال: هاتي ما معك، فناولته الحصاة فطبع لي فيها، قالت: ثم أتيت علي بن الحسين وقد بلغ بي الكبر إلى أن أرعشت وأنا أعد يومئذ مائة وثلاث عشرة سنة، فرأيته راكعا وساجدا ومشغولا بالعبادة فيئست من الدلالة، فأومأ إلي بالسبابة فعاد إلي شبابي .. ثم قال لي: هاتي ما معك فأعطيته الحصاة فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا جعفر  فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا عبد الله فطبع لي فيها، ثم أتيت أبا الحسن موسى، فطبع لي فيها، ثم أتيت الرضا، فطبع لي فيها. وعاشت حبابة بعد ذلك تسعة أشهر" .[63] 
ج - موقف الرضا من ولاية عهد المأمون

 وبغض النظر عن تهافت دليل "المعاجز وعلم الغيب" وخاصة تلك القصة الأسطورية، في إثبات إمامة الرضا، لمخالفة الدليل للقرآن الكريم،  فإنه كان يتناقض مع سيرة الإمام الرضا الذي لم يكن يدعي النص الإلهي عليه، ولا الحق الإلهي بالخلافة، بل وقام بانقلاب سياسي كبير على سياسة آبائه السابقة المتمثلة بتكفير الحكومات الظالمة ومقاطعتها.[64] وقبل بولاية العهد للمأمون.[65]

   وكان المأمون قد تعهد خلال صراعه مع أخيه الأمين، وتحت ضغط الثورات العلوية (الزيدية) على أن ينقل الخلافة إلى أفضل آل أبي طالب ، ثم أعلن: أن الإمام علي بن موسى الرضا هو أفضل العلويين.[66] وعرض الخلافة عليه سنة 201 للهجرة، متظاهرا بأنه يريد إعادة الخلافة للعلويين الذين هم أحق بها من العباسيين ، بناءا على حق الإمام علي في خلافة الرسول.[67] ودعا الرضا لاستلام الخلافة منه ، إلا أن الرضا كان يشك بحقيقة موقفه، فرفض قبول الخلافة، ولكن المأمون عرض عليه ولاية العهد، وأصر عليه ليقبلها، فقبلها منه ، وألقى الرضا يوم البيعة خطبة قال فيها :" إن أمير المؤمنين عضده الله بالسداد ووفقه للرشاد عرف من حقنا ما جهله غيره فوصل أرحاما قطعت وآمن نفوسا فزعت ، بل أحياها وقد تلفت، وأغناها إذ افتقرت ، مبتغيا رضا رب العالمين لا يريد جزاءا إلا من عنده... وانه جعل إليَّ عهده والإمرة الكبرى ان بقيت بعده ، فمن حل عقدة أمر الله تعالى بشدها ، وقصم عروة أحب الله إيثاقها فقد باع حريمه وأحل محرمه ، إذ كان ذلك زاريا على الإمام منتهكا حرمة الإسلام ، بذلك جرى السلف ... فرصة تنتهز وبائقة تبتدر ، وما ادري ما يفعل بي ولا بكم ، ان الحكم إلا لله يقضي الحق وهو خير الفاصلين". [68]
 ومهما اختلف المؤرخون في تحليل موقف المأمون، فان مبايعة الرضا له وقبوله بولاية العهد، يكشفان عن موقف أيديولوجي ظاهر بالاعتراف بشرعية خلافة المأمون وواقعية إمامة الرضا بعيدا عن نظرية: "الإمامة الإلهية الخاصة في أولاد علي والحسين". وقد اصبح التحالف بين البيتين الهاشميين العباسي والعلوي ، سمة المرحلة التالية ، و عقيدة دولة الخلافة العباسية الرسمية لبضعة عقود ، وقد تمثل بعد المأمون في موقف الخلفاء العباسيين (المعتصم والواثق والمتوكل والمعتمد) الإيجابي من أبناء الرضا كمحمد الجواد وعلي الهادي والحسن العسكري ، حيث كان الخلفاء  يقدمون لهم كامل الاحترام والتقدير.
  وهناك حديث عن الإمام الرضا، يرويه الشيخ الصدوق، يتحدث فيه عن نظرية الشورى بصراحة ويروي عن آبائه وأجداده عن رسول الله (ص) أنه قال:" من جاءكم يريد أن يفرق الجماعة ويغصب الأمة أمرها ويتولى من غير مشورة فاقتلوه فان الله قد أذن ذلك".[69] 
د -   لا جواب لكل سؤال
    وفيما كان الإمامية "الواقفية" و"القطعية" يتجادلون حول إمامة الرضا، وفيما إذا كان وريثا شرعيا لوالده ومعينا من قبل الله تعالى، كان هو يتخذ موقفا مضادا لدعوى الإمامية بامتلاكه العلم الإلهي أو القدرة على تفسير القرآن والإجابة على جميع الأسئلة التي توجه إليه، حيث أعلن أنه لن يجيب على كل سؤال وليس مضطرا لذلك، وعلى الناس أن يسألوا ولكن ليس عليه أن يجيب. بما يشبه التخلي عن "المرجعية الدينية" فقال: "إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا". [70]  وذلك خلافا لما كان الإمامية ينسبون إلى الباقر والصادق أنهما كانا يقولان بأن أهل البيت هم الذكر الوارد في القرآن، والذين يأمر الله بسؤالهم "فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ".[71] مما ولد صدمة كبيرة لدى عموم الشيعة "الإمامية" الذين أخذوا يتوافدون عليه ويكاتبونه ويستفسرون منه عن سبب ذلك. وقد نسب الوشاء وأحمد بن محمد بن أبي نصر إلى الرضا تفسيره لهذه الآية بشكل جديد، حيث قال:" على الأئمة من الفرض ما ليس على شيعتهم، وعلى شيعتنا ما ليس علينا، أمرهم الله عز وجل أن يسألونا، قال: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " فأمرهم أن يسألونا وليس علينا الجواب، إن شئنا أجبنا وإن شئنا أمسكنا".[72] 
   وقال الوشاء : سألت الرضا فقلت له: جعلت فداك: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون "؟ فقال: " نحن أهل الذكر ونحن المسؤولون، قلت: فأنتم المسؤولون ونحن السائلون؟ قال: نعم، قلت: حقا علينا أن نسألكم؟ قال: نعم، قلت: حقا عليكم أن تجيبونا؟ قال:" لا ذاك إلينا إن شئنا فعلنا وإن شئنا لم نفعل، أما تسمع قول الله تبارك وتعالى:  هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب ". [73] 
   وقال أحمد بن محمد بن أبي نصر: كتبت إلى الرضا كتابا فكان في بعض ما كتبت: قال الله عز وجل: " فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون " وقال الله عز وجل: " وما كان المؤمنون لينفروا كافة فلولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون" فقد فرضت عليهم المسألة، ولم يفرض عليكم الجواب؟ قال: قال الله تبارك وتعالى: " فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواء هم ومن أضل ممن اتبع هواه". [74]

وقال محمد بن حكيم: سألت أبا الحسن: عن الإمام هل يُسئل عن شئ من الحلال والحرام والذي يحتاج الناس ولا يكون فيه شئ؟ قال:" لا ولكن يكون عنده ولا يجيب، ذاك إليه ان شاء أجاب وإن شاء لم يجب".[75] وقال صفوان بن يحيى: قلت لأبي الحسن (الرضا) : يكون الإمام يُسئل عن الحلال والحرام فلا يكون عنده فيه شئ؟ قال:" لا ولكن قد يكون عنده ولا يجيب". [76] وروى محمد بن عبد الرحمن الأسدي والحسن بن صالح قالا: أتاه رجل من الواقفة وأخذ بلجام دابته وقال إني أريد أن أسألك، فقال:" إذاً لا أجيبك"، فقال: ولـمَ لا تجيبني؟ قال:" لأن ذلك إليَّ إن شئت أجبتك وإن شئت لم أجبك". [77]

  ورفض علي بن موسى الرضا علامة العلم بالحلال والحرام في التعرف على الإمام، التي تحدث عنها جده الصادق، فقال الرضا:"الدلالة عليه: الكبر والفضل والوصية والسلاح ... فأما المسائل فليس فيها حجة".[78]  وقال لابن أبي نصر:"للإمام علامات منها أن يكون أكبر ولد أبيه، ويكون فيه الفضل والوصية، ويقدم الركب فيقول: إلى من أوصى فلان؟ فيقال: إلى فلان، والسلاح فينا بمنزلة التابوت في بني إسرائيل، تكون الإمامة مع السلاح حيثما كان".[79]

   ولا ندري بالضبط مدى صحة هذه الروايات، والتبرير الذي يقدمه الرضا، ولا سيما استشهاده بآية "هذا عطاؤنا فامنن أو أمسك بغير حساب " التي لا تدل على الموضوع، ولكنا نحصل منها على نتيجة مؤكدة هو رفض الإمام الرضا الإجابة عن بعض الأسئلة التي توجه إليه، وهو ما يتنافى مع منصب العالم الرباني والمفسر الإلهي للقرآن، أو "المرجع الديني" الذي كان "الإمامية" يدعونه للإمام.
هـ -  مكافحة الغلاة
  ولكن الغلاة الذين كانوا يحاولون إلصاق أنفسهم بالإمام الرضا كما ألصقوا أنفسهم من قبل بآبائه وأجداده، لم يكن يعجبهم إلا أن يضفوا على الرضا صبغة "دينية"، ويشيعوا بأنه إمام مفروض الطاعة من الله، لكي يدعوا بعد ذلك الوكالة والنيابة عنه.

   وكان من أبرز الغلاة الذين التفوا حول الإمام الرضا وألصقوا أنفسهم به هو الغالي "محمد بن موسى بن الحسن بن فرات البغدادي" الذي كان يدعي النبوة للإمام الرضا، والبابية عنه، وكان يشكل امتداداً للخطابية والعليائية الذين يقولون بألوهية الأئمة.[80] وقد اشتكاه الرضا فقال :" آذاني محمد بن الفرات آذاه الله وأذاقه حر الحديد ، آذاني لعنه الله أذى ما آذى أبو الخطاب جعفر بن محمد عليهما السلام بمثله ، وما كذب علينا خطابي مثل ما كذب محمد بن الفرات. والله ما أحد يكذب إلينا إلا ويذيقه الله حر الحديد". وقد استجاب الله دعاءه فقتله ابن شكلة. [81] ففرح الإمام الرضا وقال ليونس بن عبد الرحمن : يا يونس أما ترى إلى محمد بن فرات وما يكذب علي ؟ فقال : أبعده الله وأسحقه وأشقاه، فقال: " قد فعل الله ذلك به ، أذاقه الله حر الحديد كما أذاق من كان قبله ممن كذب علينا، يا يونس إنما قلت ذلك لتحذر عنه أصحابي وتأمرهم بلعنه والبراءة منه ، فإن الله برئ منه" .

   وحاول الرضا عزل الغلاة ومنعهم من الاختلاط بالشيعة، فقال لأبي هاشم الجعفري: "الغلاة كفار، والمفوضة مشركون، من جالسهم أو خالطهم أو واكلهم أو شاربهم أو واصلهم أو زوجهم أو تزوج إليهم أو أمنهم أو ائتمنهم على أمانة أو صدق حديثهم أو أعانهم بشطر كلمة خرج من ولاية الله عز وجل وولاية رسول الله (ص) وولايتنا أهل البيت". وقال أيضا ليزيد بن عمير بن معاوية الشامي:"من زعم أن الله عز وجل فوض أمر الخلق والرزق إلى حججه عليهم السلام فقد قال بالتفويض ... والقائل بالتفويض مشرك".[82]

 وكان الرضا يدعو على الغلاة  ويتبرأ منهم في صلاته فيقول: " اللهم إني برئ من الحول والقوة ولا حول ولا قوة إلا بك ، اللهم إني أعوذ بك وأبرأ إليك من الذين ادعوا لنا ما ليس لنا بحق اللهم إني أبرأ إليك من الذين قالوا فينا ما لم نقله في أنفسنا ، اللهم لك الخلق ومنك الرزق وإياك نعبد وإياك نستعين ، اللهم أنت خالقنا وخالق آبائنا الأولين وآبائنا الآخرين اللهم لا تليق الربوبية إلا بك ولا تصلح الإلهية إلا لك ، فالعن النصارى الذين صغروا عظمتك والعن المضاهئين لقولهم من بريتك. اللهم إنا عبيدك وأبناء عبيدك لا نملك لأنفسنا نفعا ولا ضرا ولا موتا ولا حياة ولا نشورا ، اللهم من زعم أنا أرباب فنحن منه براء ، ومن زعم أن إلينا الخلق وعلينا الرزق ، فنحن براء منه كبراءة عيسى بن مريم عليه السلام من النصارى، اللهم إنا لم ندعهم إلى ما يزعمون ، فلا تؤاخذنا بما يقولون ، واغفر لنا ما يدعون ولا تدع على الأرض منهم ديارا إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا " .

  وعندما قال له المأمون: بلغني أن قوما يغلون فيكم ويتجاوزون فيكم الحد ، قال الرضا: "إنا لنبرأ  إلى الله (عز وجل) ممن يغلو فينا فيرفعنا فوق حدنا كبراءة عيسى بن مريم عليه السلام من النصارى، قال الله عز وجل: " وإذ قال الله يا عيسى بن مريم ء أنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ما قلت لهم إلا ما أمرتني به أن اعبدوا الله ربي وربكم وكنت عليهم شهيدا ما دمت فيهم فلما توفيتني كنت أنت الرقيب عليهم وأنت على كل شئ شهيد"... فمن ادعى للأنبياء ربوبية أو ادعى للأئمة ربوبية أو نبوة ..  فنحن براء منه في الدنيا والآخرة" .[83]

  ولم يكن الغلو الذي يعصف بالشيعة في زمن الرضا على مستوى واحد، كما انه لم يكن لدى الجميع مشابها لغلو "الخطابية" و "المفوضة" و "الفراتية" (أتباع محمد بن الفرات) الذي يتضمن الكفر الصريح، وإنما كان يختلف ويتنوع من جماعة الى أخرى، ولذلك فقد كانت الفرق الشيعية المختلفة تختلف فيما بينها، ويتهم بعضها بعضا بالكفر والزندقة.[84]

المبحث الرابع: النكسة الكبرى: أزمة الطفولة
  وقد أصيبت النظرية "الإمامية" (أو التشيع الديني) بنكسة كبرى عند وفاة الرضا سنة 203 ، قبل أن يكمل ابنه الجواد السابعة أو الثامنة من عمره، حيث رفض معظم أصحابه وأتباعه القول بإمامة ابنه. وكان على رأسهم يونس بن عبد الرحمن القمي الذي عمل كثيرا من أجل إثبات إمامة الرضا في مواجهة الواقفية.[85] وبالرغم من تحدث المؤرخين الشيعة المتأخرين كالنوبختي والأشعري القمي عن ذهاب قسم من شيعة الرضا للقول بإمامته؛ فلا يوجد أي مؤشر على كون هؤلاء فريقا يعتد به، وذلك لعدم قدرة ذلك الصبي على قيادة الشيعة عمليا أو توجيههم بشيء، وعدم ظهور علامات خارقة عليه كما ظهرت على النبي يحيى أو النبي عيسى (عليهما السلام). وقد قال عامة الشيعة:" إن من كان له من السن ما ذكرناه لم يكن من بالغي الحلم ولا مقاربيه ، والله تعالى يقول: وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فان آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم، وإذا كان الله تعالى قد أوجب الحجر على هذا في أمواله لإيجابه ذلك في جملة الأيتام؛ بطل أن يكون إماما لأن الإمام هو الوالي على الخلق في جميع أمر الدين والدنيا وليس يصح أن يكون الوالي على أموال الله تعالى كلها من الصدقات والأخماس، والمأمون على الشريعة والأحكام وإمام الفقهاء والقضاة والحكام ، والحاجر على كثير من ذوي الألباب في ضروب من الأعمال من لا ولاية له على درهم واحد من مال نفسه ولا يؤمن على النظر لنفسه، ومن هو محجور عليه لصغر سنه ونقصان عقله لتناقض ذلك واستحالته".[86]
    وأما الذين قالوا بإمامة الجواد، في ذلك العمر، فقد وقعوا في أزمة كبيرة، واضطربوا في الإجابة على مشكلتي العمر والعلم ، فقال بعضهم :" لا يجوز أن يكون علمه من قبل أبيه لأن الرضا ذهب إلى خراسان والجواد ابن أربع سنين وأشهر، ومن كان في هذه السن فليس في حد من يستفرغ تعليم معرفة دقيق الدين وجليله ، ولكن الله علمه ذلك عند البلوغ بضروب مما يدل على جهات علم الإمام مثل الإلهام والنكت في القلب والنقر في الأذن والرؤيا الصادقة في النوم والملك المحدث له ووجوه رفع المنار والعمود والمصباح وعرض الأعمال". وما إلى ذلك مما كان يقوله غلاة الإمامية بحق الأئمة السابقين. واستشهدوا بآية من القرآن الكريم تقول:" وآتيناه الحكم صبيا" وقالوا­: " كما أعطى الله النبوة ليحيى وهو طفل صغير ، وكما أعطاها لعيسى وهو طفل صغير كذلك فلم لا يجوز أن يعطي الإمامة لمحمد الجواد وهو ابن سبع سنين؟" وأخذوا يحبكون الروايات عن الرضا والجواد حول إمكانية تولي الأطفال للإمامة.[87]
     ورفض بعضهم هذا المنطق المشحون بالغلو والأساطير، وقالوا: " إن الجواد قبل البلوغ هو إمام على معنى أن الأمر له دون غيره إلى وقت البلوغ، فإذا بلغ علِم لا من جهة الإلهام والنكت ولا الملك ولا لشيء من الوجوه التي ذكرتها الفرقة المتقدمة، لأن الوحي منقطع بعد النبي بإجماع الأمة". وقالوا :" لا يعقل أن يعلم ذلك إلا بالتوقيف والتعليم لا الإلهام والتوفيق ، لكن نقول إنه علم ذلك عند البلوغ من كتب أبيه وما ورثه من العلم فيها وما رسمه له فيها من الأصول والفروع". وأجاز قسم من هؤلاء القياس والاجتهاد في الأحكام، للإمام خاصة، على الأصول التي في يديه لأنه معصوم من الخطأ والزلل فلا يخطئ في القياس. [88]
  وقد روى هذا الفريق عدداً من الأحاديث السرية من الرضا حول الإشارة والنص على ابنه محمد الجواد، وأنه قال عندما ولد:" هذا المولود الذي لم يولد مولود أعظم بركة على شيعتنا منه". وقال لجماعة من أصحابه:" القوا أبا جعفر فسلموا عليه وأحدثوا به عهدا". وقال:"هذا أبو جعفر قد أجلسته مجلسي وصيرته مكاني، إنا أهل بيت يتوارث أصاغرنا عن أكابرنا القذة بالقذة". وأنه دعا بابنه وهو صغير فأجلسه في حجره وقال للحسن بن الجهم: جرده وانزع قميصه، فنزعه الحسن، فقال له: انظر بين كتفيه، فنظر، فإذا في أحد كتفيه شبيه بالخاتم داخل في اللحم، ثم قال: أترى هذا؟ كان مثله في هذا الموضع من أبي.[89] 
   ومع وجود الشك بصحة هذه الأحاديث، فإنها لا تحمل معنى الإمامة المباشرة بعد وفاة الرضا، في حالة الصغر، وأنها إمامة دينية من الله، إذ يحتمل أيضا أن الرضا كان يأمل أن يرثه ابنه في المستقبل بعد طول عمر، حيث لم يكن يعلم بأنه سوف يموت سريعا في عمر السادسة والخمسين. ولكن "الإمامية" اضطروا للقول بإمامة الجواد إنقاذا لنظريتهم من التهاوي والسقوط، فوقعوا فيما هو أعظم من التناقض مع القرآن الذي يأمر بالحجر على الأطفال. أو ممارسة القياس الباطل على بعض الأنبياء السابقين (سليمان ويحيى وعيسى) بدون دليل، أو ادعاء علم الغيب للإمام.[90]
  ولكي يثبت "الإمامية" إمامة الجواد، اضطروا إلى ادعاء "معاجز" له كتكلم العصا وشهادتها بإمامته، حيث ادعى محمد بن أبي العلاء أن القاضي يحيى بن أكثم - قاضي سامراء -   سأل الجواد عن الإمام من هو؟ فقال: أنا هو، فقال: هل لك علامة؟ فكان في يده عصا فنطقت وقالت: إن مولاي إمام هذا الزمان وهو الحجة.[91] 
  وهكذا حاول الإمامية بهذه القصص "الإعجازية" الأسطورية إخراس صوت العقل والعلم في البحث عن أدلة شرعية لإثبات نظرية ليس عليها دليل. دون أن يكلفوا أنفسهم بعد ذلك عناء إثبات تلك القصص لأحد، أو يسمحوا لأحد بمناقشتها والتشكيك فيها.
وقد تكررت مشكلة صغر عمر الإمام مرة أخرى مع ابن الجواد (علي الهادي) حيث توفي أبوه في مقتبل عمره ولما يكمل الخامسة والعشرين، وكان ولداه الوحيدان علي وموسى صغيرين لم يتجاوز أكبرهما السابعة. ولأن الهادي كان صغيرا عند وفاة الجواد فقد أوصى أبوه بالأموال والضياع والنفقات والرقيق إلى أحد أصحابه، وهو: (عبدالله بن المساور وأمره بتحويلها إلى الهادي عند البلوغ ، وشهد على ذلك أحمد بن أبي خالد مولى أبي جعفر.[92]   
 وهذا ما دفع الشيعة إلى التساؤل: إذا كان الهادي بنظر أبيه غير قادر على إدارة الأموال والضياع والنفقات لصغره فكيف يكون إماما؟..وكيف يقوم بالإمامة طفل صغير؟ ومن هو الإمام في تلك الفترة؟..وقد زاد الغموض الحيرة بين الأخوين علي وموسى : أيهما الإمام؟..
 يقص علينا الكليني ذلك الغموض وتلك الحيرة التي أصابت الشيعة في أمر الإمام بعد الجواد، وعدم معرفة كبار الشيعة بهوية الإمام الجديد ، فيقول: عن الحسين بن محمد عن الخيراني عن أبيه:"لما مضى أبو جعفر .. اجتمع رؤساء العصابة (الشيعة) عند محمد بن الفرج يتفاوضون هذا الأمر، فكتب محمد بن الفرج إلى أبي يعلمه باجتماعهم عنده، ويسأله أن يأتيه، فوجد القوم مجتمعين عنده، فقالوا لأبي: ما تقول في هذا الأمر؟ فأخرج أبو الخيراني لهم وصية قال إن الجواد قد أوصى بها إليه قبيل وفاته سرا، وفيها:" إني ماضٍ والأمر صائر إلى ابني علي وله عليكم بعدي ما كان لي عليكم بعد أبي". فطلب رؤساء الشيعة منه أن يأتي بشاهد، فقال لهم: قد آتاكم الله عز وجل به، هذا أبو جعفر الأشعري يشهد لي بسماع هذه الرسالة وسأله أن يشهد بما عنده، فأنكر أحمد أن يكون سمع من هذا شيئا فدعاه أبو الخيراني إلى المباهلة، فتراجع وقال: قد سمعت ذلك وهذا مكرمة كنت احب أن تكون لرجل من العرب لا لرجل من العجم: فلم يبرح القوم حتى قالوا بالحق جميعا.[93]
   وقد أدت هذه الحيرة وذلك الغموض في أمر الإمامة إلى انقسام ما تبقى من الشيعة الامامية أتباع الجواد، إلى قسمين: قسم يقول بإمامة الهادي وآخر يقول بإمامة أخيه موسى المبرقع. [94]   
   وقد ادعى إسماعيل بن مهران أن الجواد أخبره بصورة خاصة بأن الأمر من بعده إلى ابنه علي الهادي.[95] ولكن هذه الرواية لم تكن لتقدم أو تؤخر أو تشيد إمامة الهادي وهو طفل صغير.  
 ولما لم يكن الهادي يمتلك أدلة كافية أو نصوص ثابتة على إمامته، فقد اضطر الغلاة من الإمامية إلى اختلاق إشاعات وحكايات تتضمن قيامه بمعاجز، أو علمه بالغيب ، فراحوا يدعون­ معرفته بوفاة أبيه في بغداد وهو في المدينة، في نفس الساعة ، ومعرفته بمرض أحد أبناء عمه غيبيا ، ومعرفته بمقتل الخليفة العباسي الواثق وجلوس المتوكل مكانه، ومقتل ابن الزيات، وهو في المدينة، وقبل ستة أيام من مجيء أول مسافر من العراق، ونقْل الهادي لرجل من أصحابه هو إسحاق الجلاب من "سر من رأى" إلى بغداد في طرفة عين، و"تحويل خان للصعاليك إلى روضات آنقات باسرات فيهن خيرات عطرات وولدان كأنهن اللؤلؤ المكنون ، وأطيار وظباء وانهار تفور".[96]
المبحث الخامس: تفاقم الغلو  
 وفي الحقيقة إن من يطلع على تلك القصص الأسطورية يكتشف الدور الخفي والكبير الذي كان يلعبه الغلاة في رسم صورة مغالية للأئمة، والادعاء بأنهم يعلمون الغيب ويأتون بالمعاجز، تمهيدا لتمرير مقولاتهم المغالية الأخرى من "التفويض" و"الألوهية". وقد رأينا كيف حاربهم الأئمة السابقون (الصادق والكاظم والرضا)، وسوف نرى كيف قام الأئمة المتأخرون (كالجواد والهادي والعسكري) بمحاربة الغلاة الذين كانوا يحاولون دس أنفسهم في صفوف الشيعة وبث نظرياتهم المتطرفة بينهم.
  يقول علي بن مهزيار: سمعت أبا جعفر ( الجواد ) يقول وقد ذكر عنده أبو الخطاب : "لعن الله أبا الخطاب ولعن أصحابه ولعن الشاكين في لعنه ولعن من وقف في ذلك وشك فيه" . ثم قال :" هذا أبو الغمرو وجعفر بن واقد وهاشم بن أبي هاشم استأكلوا بنا الناس فصاروا دعاة يدعون الناس إلى ما دعا إليه أبو الخطاب لعنه الله ولعنهم معه ولعن من قبل ذلك منهم ، يا على لا تتحرجن من لعنهم لعنهم الله فإن الله قد لعنهم ، ثم قال : قال رسول الله (ص) :" من تأثم أن يلعن من لعنه الله فعليه لعنة الله".[97]

    وكتب الإمام علي الهادي إلى بعض شيعته قائلا:"  لعن الله القاسم اليقطيني ولعن الله علي بن حسكة القمي إن شيطانا تراءى للقاسم فيوحي إليه زخرف القول غرورا ".[98] وعندما سأله بعض شيعته عن ابن حسكة الذي كان يدعي أنه من أوليائه وأن الإمام هو "الأول القديم" وأنه بابه ونبيه وقد أمره أن يدعو إلى ذلك، وطلبوا من الإمام أن يكتب لهم جوابا يوضح لهم حقيقة الموقف وينجيهم من الهلكة، كتب الهادي لهم :" كذب ابن حسكة عليه لعنة الله وبحسبك أني لا أعرفه في موالي. ماله؟! لعنه الله ، فوالله ما بعث الله محمدا والأنبياء من قبله إلا بالحنيفية والصلاة والزكاة والحج والصيام والولاية ، وما دعا محمد (ص)  إلا إلى الله وحده لا شريك له . وكذلك نحن الأوصياء من ولده عبيد الله لا نشرك به شيئا إن أطعناه رحمنا وأن عصيناه عذبنا ، مالنا على الله من حجة بل الحجة لله علينا وعلى جميع خلقه ، أبرأ إلى الله ممن يقول ذلك وأنتفي إلى الله من هذا القول ، فاهجروهم لعنهم الله والجأوهم إلى أضيق الطريق ، وإن وجدت من أحد منهم خلوة فاشدخ رأسه بالصخرة".

وقال الكشي: كتب بعض أصحابنا إلى أبي الحسن العسكري:" جعلت فداك يا سيدي إن علي بن حسكة يدعي أنه من أوليائك وأنك أنت الأول القديم، وأنه بابك ونبيك أمرته أن يدعو إلى ذلك، ويزعم أن الصلاة والزكاة والحج والصوم كل ذلك معرفتك ومعرفة من كان في مثل حال ابن حسكة فيما يدعي من البابية والنبوة فهو مؤمن كامل سقط عنه الاستعباد بالصوم والصلاة والحج ، وذكر جميع شرائع الدين أن معنى ذلك كله ما ثبت لك، ومال إليه ناس كثير فإن رأيت أن تمنَّ على مواليك بجواب في ذلك تنجيهم من الهلكة". فكتب العسكري :" أبرأ إلى الله من الفهري والحسن بن محمد بن بابا القمي فابرأ منهما فإني محذرك وجميع موالي وإني ألعنهما، عليهما لعنة الله ، مستأكلين يأكلان بنا الناس فتانين مؤذيين آذاهما الله وأركسهما في الفتنة ركسا. يزعم ابن بابا أني بعثته نبيا وأنه باب ، ويله لعنه الله ، سخر منه الشيطان فأغواه ، فلعن الله من قبل منه ذلك ، يا محمد إن قدرت أن تشدخ رأسه بحجر فافعل فأنه قد آذاني آذاه الله في الدنيا والآخرة". [99]

  ونظراً إلى أن الغلاة كانوا ينسبون أقوالهم الكفرية إلى أئمة أهل البيت، فقد كانوا يوقعون الشيعة في التباس وحيرة، مما كان يدفعهم للسؤال والاستفسار من الأئمة عن أولئك الغلاة المندسين في صفوفهم. وقد كان أمرهم يلتبس حتى على مركز علمي مثل "قم" حيث كتب منها أحمد بن محمد بن عيسى إلى الإمام العسكري (في سامراء):" في قوم يتكلمون ويقرأون أحاديث وينسبونها إليك وإلى آبائك فيها ما تشمئز منها القلوب ولا يجوز لنا ردها إذ كانوا يروونها عن آبائك، ولا قبولها لما فيها.. وينسبون (خلق) الأرض (أو الأمر) إلى قوم يذكرون أنهم من مواليك، وهو رجل يقال له: علي ابن حسكة، وآخر يقال له : القاسم اليقطيني. ومن أقاويلهم أنهم يقولون : إن قول الله عز وجل : " إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر" معناها رجل ، لا ركوع ولا سجود، وكذلك الزكاة معناها ذلك الرجل لا عدد درهم ولا إخراج مال، وأشياء من الفرائض والسنن والمعاصي تأولوها وصيروها على الحد الذي ذكرت، فإن رأيت أن تبين لنا وتمنَّ علينا بما فيه السلامة لمواليك ونجاتهم من هذه الأقاويل التي تخرجهم إلى الهلاك" .فكتب إليه العسكري:" ليس هذا ديننا فاعتزله".[100] 

  ومع ذلك فقد ظل الأمر ملتبسا على بعض الشيعة فكتب سهل بن محمد، إلى الإمام الهادي يستوضح منه الأمر:"قد اشتبه يا سيدي على جماعة من مواليك أمر الحسن بن محمد بن بابا، فما الذي تأمرنا يا سيدي في أمره نتولاه؟ أم نتبرأ منه؟ أم نمسك عنه فقد كثر القول فيه ؟ فكتب بخطه : "ملعون هو وفارس تبرءوا منهما لعنهما الله وضاعف ذلك على فارس". وكتب أيضا إلى علي بن عمر القزويني بخطه: "اعتقد فيما تدين الله به، إن الباطن عندي حسب ما أظهرت لك فيمن استنبأت عنه، وهو فارس لعنه الله، فإنه ليس يسعك إلا الاجتهاد في لعنه وقصده ومعاداته والمبالغة في ذلك بأكثر ما تجد السبيل إليه، ما كنت آمر أن يدان الله بأمر غير صحيح، فجد وشد في لعنه وهتكه وقطع أسبابه وسد أصحابنا عنه وإبطال أمره، وأبلغهم ذلك مني وأحكمه لهم عني، وإني سائلكم بين يدي الله عن هذا الأمر المؤكد، فويل للعاصي وللجاحد وكتبت بخطي ليلة الثلاثاء لتسع ليال من شهر ربيع الأول سنة (250) وأنا أتوكل على الله وأحمده كثيرا ".[101]

   وروى الكشي روايات في لعن فارس بن حاتم القزويني ، وأن أبا الحسن العسكري أمر جنيدا بقتله فقتله وحرض على قتل جماعة أخرى من الغلاة كأبي السمهري ابن أبي الزرقاء. [102]

   و إلى جانب علي ابن حسكة ، والقاسم اليقطيني والحسن بن محمد بن بابا القمي وفارس بن حاتم القزويني والشريعي، كان هناك محمد بن نصير الفهري النميري، الذي ادعى أيضا أن علي بن محمد العسكري رب، وأنه نبي رسول من قبله ، وكان يقول بالتناسخ ، وإباحة المحارم ويحلل نكاح الرجال بعضهم بعضا في أدبارهم ، ويقول : إنه من الفاعل والمفعول به أحد الشهوات والطيبات ، إن الله لم يحرم شيئا من ذلك .[103]

  وقد كان بعض هؤلاء الغلاة ينسبون ما يشاءون من الأقوال الكاذبة للأئمة، عن طريق ادعاء رؤيتهم في المنام وتحدثهم معهم، مثل الفضل بن الحارث، الذي يعده الطوسي والكشي "من أصحاب العسكري" والذي يقول: " كنت بسر من رأى وقت خروج سيدي أبي الحسن عليه السلام، فرأينا أبا محمد ماشيا قد شق ثوبه، فجعلت أتعجب من جلالته وما هو له أهل ومن شدة اللون والأدمة وأشفق عليه من التعب، فلما كان الليل رأيته عليه السلام في منامي، فقال: اللون الذي تعجبت منه اختبار من الله لخلقه يختبر به كيف يشاء، إنها هي لعبرة لأولي الأبصار، لا يقع فيه على المختبر ذم، ولسنا كالناس فنتعب كما يتعبون، نسأل الله الثبات والتفكر في خلق الله، فإن فيه متبعا (متسعا) واعلم أن كلامنا في النوم مثل كلامنا في اليقظة".[104] وهذا ما كان يفتح الباب للفضل ولغيره لتأليف ما يشاءون من الروايات ونسبتها للأئمة من أهل البيت.

   ومن ذلك ما رواه الكشي عن علي بن محمد بن قتيبة: أن عبد الله بن حمدويه البيهقي كتب إلى أحد الأئمة: " إن أهل نيسابور قد اختلفوا في دينهم وخالف بعضهم بعضا، وبها قوم يقولون أن النبي (ص) عرف جميع لغات أهل الأرض ولغات الطيور وجميع ما خلق الله، وكذلك لابد أن يكون في كل زمان من يعرف ذلك، ويعلم ما يضمر الإنسان، ويعلم ما يعمل أهل كل بلاد في بلادهم ومنازلهم، وإذا لقى طفلين فيعلم أيهما مؤمن وأيهما يكون منافقا، وأنه يعرف أسماء جميع من يتولاه في الدنيا وأسماء آبائهم، وإذا رأى أحدهم عرفه باسمه من قبل أن يكلمه، ويزعمون - جعلت فداك - أن الوحي لا ينقطع، والنبي (ص) لم يكن عنده كمال العلم، ولا كان عند أحد من بعده، وإذا حدث الشيء في أي زمان كان ولم يكن علم ذلك عند صاحب الزمان، أوحى الله إليه وإليهم" وقال: "كذبوا لعنهم الله وافتروا إثما عظيما. وبها شيخ يقال له الفضل بن شاذان يخالفهم في هذه الأشياء وينكر عليهم أكثرها، وقوله شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله، وأن الله عز وجل في السماء السابعة فوق العرش كما وصف نفسه عز وجل، وأنه ليس بجسم فوصفه بخلاف المخلوقين في جميع المعاني، ليس كمثله شئ وهو السميع البصير، وإن من قوله أن النبي (ص) قد أتى بكمال الدين، وقد بلغ عن الله عز وجل ما أمره به، وجاهد في سبيله وعبده حتى أتاه اليقين، وأنه (ص) أقام رجلا مقامه من بعده، فعلمه من العلم الذي أوحى الله، يعرف ذلك الرجل الذي عنده من العلم الحلال والحرام وتأويل الكتاب وفصل الخطاب، وكذلك في كل زمان لابد من أن يكون واحد يعرف هذا، وهو ميراث من رسول الله (ص) يتوارثونه، وليس يعلم أحد منهم شيئا من أمر الدين إلا بالعلم الذي ورثوه عن النبي (ص) وهو ينكر الوحي بعد رسول الله (ص فقال (الإمام):" قد صدق في بعض وكذب في بعض". وفي آخر الورقة: قد فهمنا رحمك الله كل ما ذكرت، ويأبى الله (عز وجل) أن يرشد أحدكم وأن يرضى عنكم وأنتم مخالفون معطلون، الذين لا يعرفون إماما ولا يتولون وليا، كلما تلاقاكم الله (عز وجل) برحمته وأذن لنا في دعائكم إلى الحق، وكتبنا إليكم بذلك، وأرسلنا إليكم رسولا لم تصدقوه، فاتقوا الله عباد الله، ولا تلجوا في الضلالة من بعد المعرفة، واعلموا أن الحجة قد لزمت أعناقكم، فاقبلوا نعمته عليكم تدم لكم بذلك  السعادة في الدارين عن الله (عز وجل) إن شاء الله. وهذا الفضل بن شاذان مالنا وله، يفسد علينا موالينا، ويزين لهم الأباطيل، وكلما كتب إليهم كتابا أعرض علينا في ذلك، وأنا أتقدم إليه أن يكف عنا، وإلا والله سألت الله أن يرميه بمرض لا يندمل جرحه منه في الدنيا ولا في الآخرة، أبلغ موالينا هداهم الله سلامي، واقرأهم بهذه الرقعة إن شاء الله". [105]

  ولكن هذه الرسالة مشكوك بصحتها للشك بوثاقة ابن قتيبة، وبالتالي فمن الصعب التأكد من خلالها من رأي الإمام هل هو إلى جانب الغلاة؟ أم إلى جانب الفضل بن شاذان الذي كان يحاول مكافحة الغلاة؟ أم ضدهما معا؟ ولكن الرسالة تكشف عن حركة الوضع والتأليف التي كان يقوم بها الوضاعون على لسان "الأئمة" في تلك الأيام.[106]


المبحث السادس:  أزمة البداء .. مرة أخرى

   إن نظرية الإمامة عند أهل البيت وعامة الشيعة العلوية كانت تختلف في مفهومها عند "الامامية" الذين كانوا فريقا صغيرا جدا وسريا في صفوف الحركة الشيعية في القرن الثالث الهجري، فهي كانت إمامة عادية سياسية بشرية عند أولئك "الشيعة العلوية"، وإمامة ربانية عند هؤلاء "الإمامية". ومن هنا كان أئمة أهل البيت يشيرون إلى أحد أبنائهم، أو يتوقعون أن يخلفهم في مقامهم التوجيهي، ثم قد يموت في حياتهم، فيشيرون إلى رجل آخر، ولا يجدون في ذلك أي حرج أو تناقض، ولكن وفاة أحد أبناء الأئمة المرشحين للخلافة كان يسبب أزمة كبرى في صفوف "الامامية" الذين كانوا يعتقدون أن نصب الإمام من الله تعالى، ولذلك فقد كانوا يستغربون أن يموت الإمام المقترح و"المعين" في نظرهم في حياة أبيه، ويعتبرون ذلك تغيراً في الإرادة الإلهية، وهو ما كانوا يعبرون عنه بـ"البداء". مع أن الاعتراف بالبداء وتغيير الله لإرادته في هكذا موضوع كالإمامة، كان صعبا عليهم أيضا، وذلك لما يسببه التغيير من حرج وتشكيك للناس في صدقية "الأئمة" والتراجع عن اعتبار النص على الأئمة من الله تعالى.
  وكما رأينا سابقا فقد سببت وفاة إسماعيل بن جعفر الصادق هزة في الفكر الإمامي أدت إلى تراجع الكثير من الامامية عن الاعتقاد بأن الإمامة تعيين من الله، وحاول بعض "الامامية" تفسير وفاة إسماعيل بالبداء ، ورفض بعضهم قصة الترشيح من أساسها، بينما أنكر بعض آخر الوفاة وأصر على اختفاء إسماعيل عن الأنظار. وقد حدثت نفس القصة مرة أخرى بعد مائة عام تقريبا، حيث أعلن الإمام علي الهادي عن ترشيح ابنه السيد محمد (المدفون في مدينة بلد قرب سامراء) كخلف له، ولكنه توفي في حياته، فأوصى إلى أخيه ­ الحسن العسكري وقال له:" يا بني أحدث لله شكرا فقد أحدث فيك أمرا".[107]
   وقد روى مشايخ الطائفة الإمامية الاثني عشرية (الكليني والمفيد والطوسي) عن أبي هاشم داود بن القاسم الجعفري قال : كنت عند أبي الحسن العسكري وقت وفاة ابنه أبي جعفر، وقد كان أشار إليه ودلَّ عليه، وإني لأفكر في نفسي وأقول هذه قصة أبي ابراهيم وقصة إسماعيل، فأقبل إليَّ أبو الحسن وقال :" نعم يا أبا هاشم بدا لله في أبي جعفر وصير مكانه أبا محمد كما بدا له في إسماعيل بعدما دل عليه أبو عبدالله ونصبه، وهو كما حدثتك نفسك وأنكره المبطلون .. أبو محمد ابني الخلف من بعدي عنده ما تحتاجون إليه، ومعه آلة الإمامة والحمد لله".[108]
   وقال شاهويه بن عبد الله الجلاب إن الهادي كتب إليه: " أردتَ أن تسأل عن الخلف بعد أبي جعفر وقلقت لذلك فلا تغتم فإن الله عز وجل " لا يضل قوما بعد إذ هداهم حتى يبين لهم ما يتقون " وصاحبك بعدي أبو محمد ابني وعنده ما تحتاجون إليه، يقدم ما يشاء الله ويؤخر ما يشاء الله "ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها " قد كتبت بما فيه بيان وقناع لذي عقل يقظان".[109] 
  ومثلما حدث مع الإسماعيلية الذين أنكروا وفاة إسماعيل، فقد رفض قسم من شيعة الإمام الهادي الاعتراف بوفاة ابنه محمد، وأصروا على القول باستمرار حياته وغيبته، وفسروا إعلان الهادي لوفاة ابنه بأنه نوع من التقية والتغطية على الحقيقة. وقال هؤلاء "بإمامة محمد بعد أبيه، واعتلوا في ذلك : بأن أباه أشار إليه بالإمامة وأعلمهم أنه الخليفة من بعده، والإمام لا يجوز عليه الكذب، ولا يجوز البداء فيه، فهو وإن كانت ظهرت وفاته ..لم يمت في الحقيقة، ولكن أباه خاف عليه فغيبه وهو القائم المهدي، وقالوا فيه بمثل مقالة أصحاب إسماعيل بن جعفر".[110]
  وتقول بعض الروايات إن الهادي رفض إعلان اسم خليفته بوضوح، تماما كما فعل الصادق بعد وفاة ابنه إسماعيل، وقال لعلي بن مهزيار: "عهدي إلى الأكبر من ولدي".[111] وإنه نهى عن تخصيص أحد ولده وقال لعلي بن عمرو العطار:" لا تخصوا أحدا حتى يخرج إليكم أمري". فكتب إليه بعد: فيمن يكون هذا الأمر؟ قال: فأجابه:"في الكبير من ولدي".[112]  وقال لعبد الله بن محمد الأصفهاني: "صاحبكم بعدي الذي يصلي عليَّ".[113] 
    وبعد وفاة الإمام الهادي حدث صراع وتنافس بين جعفر بن علي وأخيه الحسن، مما أثر كثيرا على موقف الشيعة من العسكري، حتى قال:" ما مُني أحد من آبائي بمثل ما منيت به من شك هذه العصابة فيَّ".[114]
 وهنا قام أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري (وهو من أبرز مؤيدي العسكري من الإماميين) بتحوير أسطورة "أم أسلم" أو"حبابة الوالبية" السابقة، إلى حصاة "أم غانم" وإضافة فصل جديد إليها، ليثبت إمامة العسكري عن طريق "الإعجاز"، فقال:" كنت عند أبي محمد (العسكري) فاستؤذن لرجل من أهل اليمن عليه، فدخل رجل عبل طويل جسيم، فسلم عليه بالولاية فرد عليه بالقبول وأمره بالجلوس، فجلس ملاصقا لي، فقلت في نفسي: ليت شعري من هذا؟ فقال أبو محمد: هذا من ولد الأعرابية صاحبة الحصاة التي طبع آبائي فيها بخواتيمهم فانطبعت، وقد جاء بها معه يريد أن أطبع فيها، ثم قال: هاتها، فأخرج حصاة وفي جانب منها موضع أملس، فأخذها أبو محمد، ثم أخرج خاتمه فطبع فيها فانطبع فكأني أرى نقش خاتمه الساعة "الحسن بن علي". فقلت لليماني: رأيته قبل هذا قط؟ قال: لا والله وإني لمنذ دهر حريص على رؤيته حتى كأن الساعة أتاني شاب لست أراه فقال لي: قم فادخل، فدخلت. ثم نهض اليماني وهو يقول: رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت، ذرية بعضها من بعض أشهد بالله أن حقك لواجب كوجوب حق أمير المؤمنين والأئمة من بعده (صلوات الله عليهم أجمعين). ثم مضى فلم أره بعد ذلك. قال أبو هاشم الجعفري: وسألته عن اسمه فقال: اسمي مهجع بن الصلت بن عقبة بن سمعان بن غانم بن أم غانم وهي الأعرابية اليمانية، صاحبة الحصاة التي طبع فيها أمير المؤمنين والسبط إلى وقت أبي الحسن.[115]
   وأدرك أبو هاشم الجعفري (الراوي للقصة) العنصر الخيالي فيها، فسارع إلى إخفاء أي أثر لليمني (ابن أم غانم) وادعى أنه مضى ولم يره بعد ذلك، خوفا من أن يسأله أحد عن حقيقة هذه الأسطورة، أو يبادر فيلحق باليمني ليتأكد من صحة القصة، والملفت أن أبا هاشم لم يتحدث عن مجيء "أم غانم" التي يبدو أنها ماتت منذ خمسة أجيال وجاء حفيد حفيدها ليقوم بمهمة التأكد من إمامة العسكري، وذلك بطبع الحصاة بخاتمه .
   وقد لعب أبو هاشم داود بن القاسم الجعفري دورا كبيرا في تثبيت إمامة العسكري، فنقل عن الامام الهادي أنه كان قد أشار في البداية إلى ابنه السيد محمد ودل عليه، وعندما مات في حياته قال: "بدا لله في أبي جعفر وصير مكانه أبا محمد كما بدا لله في إسماعيل بعد ما دل عليه أبو عبد الله ونصبه". [116]
   ورغم أن هذه الرواية تؤكد عدم معرفة الهادي بالإمام بعده، ولا بمصير ابنه محمد ولا وفاته في حياته، فقد روى أبو هاشم الجعفري أيضا عن أبي جعفر الثاني (محمد الجواد)  رواية عن الامام الحسن المجتبى يذكر فيها أسماء الأئمة الى الحسن العسكري، من دون أن يشير الى مسألة البداء والتعيين المسبق للسيد محمد ثم تنصيب الامام العسكري مكانه. [117]
   وبما أن النص على الحسن العسكري كان غامضا ومحل شبهة ونزاع بين الشيعة الامامية وبين أولاد الامام الهادي، فقد لجأ أبو هاشم الجعفري الى اختلاق مجموعة من الروايات الأسطورية القائمة على دعوى علم الامام العسكري بالغيب، والتي يرويها الجعفري بنفسه ويقول انها حصلت له ، ولا يمكن التأكد منها بصورة مستقلة ومحايدة، غير دعواه بعلم الامام للغيب.
   يقول الجعفري انه سمع الامام أبا محمد (العسكري) يقول ذات مرة: إن "من الذنوب التي لا تغتفر قول الرجل ليتني لا أو اخذ الا بهذا" فقلت في نفسي: إن هذا لهو الدقيق ينبغي للرجل ان يتفقد من أمره ومن نفسه كل شيء ، فأقبل أبو محمد فقال: يا أبا هاشم صدقت فالزم ما حدثت به نفسك، فان الإشراك في الناس أخفى من دبيب الذر على الصفا.

جميع الحقوق محفوظة للاخ منهاج السنة ابو ابات 2012-2013 | جميع المواد الواردة في هذا الموقع حقوقها محفوظة لدى ناشريها ; فهـرس الـموقــع | سياسة الخصوصية